الاثنين، 26 مايو 2014

الاختصاص القضائي العالمي وغياب المحاسبة (1)

الاختصاص القضائي العالمي وغياب المحاسبة (1)
الاختصاص القضائي العالمي واستعماله الميداني هما محطا جدل كثيف في بداية هذه الألفية، فانطلاقا منه رفعت الشكاوى ضد بينوشيه وشارون وحسن حبري وغيرهم، مما تطلب إعادة نظر على عدة أصعدة. سنتفحص هذا المفهوم بالنظر لعلاقته بحماية حقوق الإنسان الأساسية كوسيلة لمكافحة غياب المحاسبة.
ممارسة واحتمالية الإفلات من العقاب يشجعان على انتهاك حقوق الإنسان، خاصة عندما تحمي الدول ذلك، إن بالامتناع عن الملاحقة أو بأي شكل كان بما فيه الإجراءات التشريعية الداخلية كصدور عفو على سبيل المثال.
من البديهي أن متابعة المجرمين وشركائهم لتحمل مسؤولية أعمالهم هو واجب الدولة كي يسترد الضحايا كرامتهم عبر الاعتراف بآلامهم. فمنذ الحرب العالمية الثانية يتزايد الاهتمام بمكافحة الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية والتي تعد جرائم دولية. فميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين وإعلان وبرنامج عمل مؤتمر فيينا (خاصة الجزء الثاني منه، فقرة 91)، والقرار 68|2000 الصادر بتاريخ 26 نيسان/أبريل 2000 للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة والمتعلقة بغياب المحاسبة، تشير كلها لأهمية مكافحة الإفلات من العقاب.
مبدأ الاختصاص القضائي العالمي هو وسيلة تهدف لمكافحة غياب محاسبة المجرمين يمكن أن يلجأ لها قاضي أي بلد. ويمكن تعريفه على أنه مبدأ يعطي لأي جهاز قضائي وطني صلاحية محاكمة ومعاقبة من يرتكب جريمة من الجرائم التي لا يقبلها الضمير الإنساني، بغض النظر عن مكان ارتكابها وجنسية فاعلها أو ضحيتها.
سوف نركَز فيما يلي، بعد ملاحظات الأولية (1) على أصول مبدأ الاختصاص القضائي العالمي (2) وأهميته في مكافحة الإفلات من العقاب (3) ثم مدى وشروط استعماله (4) لنتطرق بعد ذلك لمعوقات استعماله الفعلي (5) قبل الوصول للخلاصة (6).

1.    ملاحظات أولية
.1.1  الاختصاص القضائي العالمي والاختصاص القضائي التقليدي
يحدد عادة الاختصاص القضائي العادي تجاه الجريمة بمعيار السيادة الوطنية، أي السيادة الترابية والبحرية والجوية للدولة, كذلك بمعيار الجنسية، عندما ترتكب الجريمة خارج الدولة، لكون المتهم أحد رعاياها (اختصاص شخصي إيجابي) أو المجني عليه (اختصاص شخصي سلبي). هناك شواذ على القاعدة في حالة الجرائم الكبرى التي تخضع حينها لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي رغم غياب عناصر التبعية الوطنية المادية منها والشخصية. على هذا الأساس يمكن للقاضي المحلي أن ينظر في الجرائم المقترفة في الخارج من قبل أو ضد من هم من غير مواطنيه.
.2.1  تعدد القضاة المختصين
من نتائج مبدأ الاختصاص القضائي العالمي تعدد القضاة أو الأجهزة القضائية الوطنية التي يمكن لها أن تحاكم الجاني على أساس نفس الجريمة. بحيث يصبح الجاني موضوعا للقانون الدولي ويمكن أن يلاحق ويحاكم ويحكم عليه أمام هيئات قضائية متعددة. فاختصاص عدة قضاة محليين له ما يبرره عندما يتعرض المرء لجريمة كبرى تصدم الضمير الإنساني. أما خطر تعدٌد الاختصاص القضائي فيتم تجنبه باحترام مبدأ عدم المحاكمة أكثر من مرة على نفس الفعل (أي ne bis in idem) أخذا بعين الاعتبار للأحكام الصادرة على الجاني في بلد أجنبي. إن قاعدة "قاضي المجرم أو سلٌمه لمن يقاضيه" (أي:aut dedere aut punire) تتجنب هذا الإشكال أيضا عندما تفرض على الدول تسليم الجاني عندما لا تحاكمه.
.3.1 الاختصاص القضائي العالمي والاختصاص القضائي الاستثنائي
لم تكن المتابعات القضائية في العديد من الدول (مثل الدانمرك و فرنسا و بلجيكا وألمانيا, الخ) ضد المشتبه بهم لارتكابهم جرائم عالمية في جمهورية يوغسلافيا السابقة أو رواندا مؤسسة على مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، بل أجريت المتابعات بموجب قوانين خاصة أو استثنائية تتعلق بتعاون الدول الحتمي مع المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين. خلافا عن المحكمة الجنائية الدولية والتي تعدٌ بموجب قانونها الأساسي ثانوية وتابعة للمحاكم الوطنية فإن المحكمتين الجنائيتين الدوليتين لهما أولوية. مثال على ذلك هو تخلٌي العدالة الوطنية اليوغسلافية عن قضية ميلوسفتش لصالح المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا بناءا على طلب الوكيلة العامة كارلا دل بونتي مباشرة.
.4.1  القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الجنائي
هنالك فرق يتعين الانتباه إليه. القوانين الوطنية الداخلية تخضع لسلم تراتبي وتبعي بما في ذلك القانون الجنائي، بينما القانون الدولي هو قانون مساواة وقانون توافقي. وبين القانونين الوطني والدولي تنسيق لا بدٌ منه.
1.4.1  القانون الجنائي الدولي
يصدر هذا الصنف من القوانين عن التشريع الوطني ويرمي إلى فك النزاعات الميدانية أو السيادية بين القوانين والاختصاصات القضائية عندما تحتوي قضية ما على عنصر أو عناصر أجنبية خارجة عن سيادة الدولة. حيث من الضروري أن تتعايش الأنظمة القانونية والقضائية الوطنية المختلفة.
.2.4.1 القانون الدولي الجنائي
يصدر القانون الدولي الجنائي عن قرارات واتفاقيات دولية وأيضا عن العرف الدولي المعتاد العمل به دوليا. لأن من طبيعته أنه من النظام العام يكون القانون الدولي الجنائي نتيجة اتفاق تحكيمي عسير كما كان الحال بالنسبة لتعريف جرائم القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وتبقى عادة لكل دولة صلاحية تحديد كل من عقوبة الجريمة وقواعد إجراءات المتابعة والمحاكمة التي تحتكرها السلطات التشريعية والشرطية والقضائية الداخلية.
يكون استخدام أو استعمال الاتفاقيات الدولية التي تصادق عليها الدولة مباشرا في الأنظمة القانونية "الأحادية" أو بعد المصادقة، ثم دمجها ضمن المنظومة القانونية الوطنية في الأنظمة القانونية المزدوجة (مثل الدانمرك وبلجيكا والمملكة البريطانية المتحدة, الخ). وتعطي دساتير دول الأنظمة القانونية  "الأحادية" عادة للاتفاقيات الدولية أولوية بالنسبة للقانون الوطني (نجد مثال ذلك في فرنسا وهولندة والجزائر, إلخ.) أو قوة موازية للقانون الوطني في سلم القواعد (مثل جمهورية مصر).  
.3.4.1 استخدام الاختصاص القضائي العالمي مقتصر على "الجرائم الخطيرة"
يكون استعمال الاختصاص القضائي العالمي مبرٌرا في مواجهة الجرائم ضد الحقوق الإنسانية الأساسية كونها تجمع حسب تعبير البروفسور فريدريك سودر على "خاصية بشرية غير قابلة للتصرف يرجع أصلها إلى مبادئ نجدها في موروث كل الثقافات والأنظمة الاجتماعية".
حقوق الإنسان هي في الواقع حقوق متغايرة وظرفية وغامضة ووحدتها شبه وهمية. فهي نتاج تبادل حضاري وثقافي وفكري لآلاف السنين تبلور أخيرا في عبارات ليبرالية غربية, فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة  1948 هو نتاج أغلبية أنظمة غربية كانت موجودة في الأمم المتحدة آنذاك، بينما الأغلبية الآن في نفس المنظمة مكونة من دول جديدة من آسيا وإفريقية لها موروث ثقافي وفلسفي وإيديولوجي ثمين متغاير, وعندما يكون الحوار من صلب الحقوق الإنسانية يصبح من الحق بمكان أن نعترف بنسبية عالمية حقوق الإنسان كما يعبٌر عليها الآن. للسبب ذاته لم تكن توجد آليات فعٌالة لحماية هذه الحقوق عندما كان للولايات المتحدة الأمريكية قانون داخلي عنصري يميز بين الأبيض والأسود وكان للأنظمة العظمى المتسلطة على الشعوب المستعمرة نية لاستدامة الوضع على حاله بينما كان في الاتحاد السوفييتي دكتاتورية الحزب الواحد وسياسة "الغولاغ" لتغييب المعارضين.
انتظرت البشرية لما بعد الحرب العالمية الثانية لتتٌفق على المادة 3 المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربعة التي تمنع بعض الجرائم "في كل زمان وفي كل مكان". وأدخلت اتفاقية فيينا المعقودة في 23 مايو/أيار 1969 و المتعلقة بقانون العهود الدولية مبدأ: "بطلان نصوص الاتفاقيات الدولية التي تتعارض مع قاعدة إلزامية تابعة للقانون العام الآمر (أي ius cogens), إن الاتفاقية الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 تتضمن بعض الحقوق التي يمنع المساس بها في كل الظروف بما في ذلك حالات الطوارئ القصوى والاستعجال وحتى في حالة الحرب. ثم جاء القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليركٌز في مادتيه 1و5 ويحدد اختصاصها موضوعيا (ratione materi) لما يسمى بنواة الجرائم، أي الجرائم الخطيرة التي لها بعد دولي. ونعتبر من جانبنا أن الحقوق الإنسانية الأساسية هي التي يوصف التعدي عليها بالجريمة الجنائية الدولية والتي يحقٌ استعمال الاختصاص القضائي العالمي لحمايتها ويكون ذلك مبرٌرا.
.2  أصول مبدأ الاختصاص القضائي العالمي
للمبدأ أصول ومبررات أدبية وأخلاقية ودينية إلخ. سوف نهتم بالأصل القانوني للمبدأ، وعنينا في هذا الصٌدد الأساس الإرادي للدول ثم أصل العرف الدولي.
.1.2  إرادة الدول
.1.1.2  الإرادة المنفردة للدول
عموما لا يوجد مانع لأن تحدٌد أية دولة بإرادتها المنفردة مساحة أو مجال اختصاص قانونها ومحاكمها عندما تعتبر أن مصالحها مهدٌدة.
.2.1.2  الإرادة المشتركة للدول
تتٌفق الدول فيما بينها أو في إطار الأنظمة الحكومية المشتركة.
.1.2.1.2 إرادة الأنظمة الحكومية المشتركة
لمٌا تعبٌر بعض الحقوق عن "الأخلاق الدولية الرسمية" تكون حينها موضوع قرارات الأمم المتٌحدة أو اتفاقيات دولية متعدٌدة الأطراف. مثال من أمثلة قرارات الأمم المتٌحدة هو إعلان حماية كل إنسان من الاختفاء القصري والذي أسٌس لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي. أيضا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المسمى "مبادئ التعاون الدولي فيما يتعلٌق بمتابعة وإلقاء القبض وتسليم ومعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية". لقد سبق لمحكمة العدل الدولية (Cour Internationale de Justice)  اعتبار أن لقرارات الجمعية العامة للأمم المتٌحدة طابع تنظيمي وأنها تعدٌ بيٌنة لوجود رأي قانوني معتبر (opinio juris).
.2.2.1.2 الالتزام التعاقدي بين الدٌول (اتفاقيات ثنائية أو متعدٌدة الأطراف)
تؤسٌس - صراحة أو ضمنيا - بعض الاتفاقيات الدولية متعدٌدة الأطراف مبدأ الاختصاص القضائي العالمي عندما تلزمها باتخاذ تدابير قانونية لتجريم بعض التصرفات ومتابعة مرتكبيها. بيد أن الالتزام التعاقدي ليس كافيا دائما رغم أن القانون الدولي يلزم الدولة الموقعة على تنفيذ التزامها بحسن النية (التزام بالنتيجة). وتبقى الدولة صاحبة القرار في اختيار الوسائل المؤدية للتنفيذ إلاٌ في حالة اتفاقية ذات طابع تنفيذ تلقائي (self executing).
1.2.2.1.2 اتفاقيات جنيف الأربعة و البروتوكولين 1و2   الملحقة بها
تؤسس هذه النصوص لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي لمكافحة الجرائم الخطيرة ضد الحقوق الإنسانية أثناء حالات النزاعات المسلحة الدولية أو الأهلية. التزمت ال 188 دولة التي وافقت على اتفاقيات جنيف بتجريم ضمن قوانينها الجنائية الداخلية جرائم الحرب المتفق عليها (الفقرة 1 من المواد 49 و 50 و 129 و146 لكل من الاتفاقيات 1 و 2 و 3 و 4). كما التزمت بموجب الفقرة 2 من نفس المواد باستعمال مبدأ الاختصاص القضائي العالمي كقاعدة مشتركة ملزمة لتلك الدول لمتابعة مجرمي الحرب. تلتزم الدول أيضا بموجب المادة 188 من البروتوكول 1 بالمساعدة القضائية فيما بينها والتعاون مثل تسليم المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة.
2.2.2.1.2 اتفاقية مكافحة جريمة التعذيب لسنة  1984
تؤسس اتفاقية مكافحة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة مبدأ الاختصاص القضائي العالمي (مادة 5) بالنسبة لل 132دولة التي وافقت على الاتفاقية. وبالتالي تصبح تلك الدول ملزمة بمتابعة مرتكبي جريمة التعذيب قضائيا (مادة 6) ومعاقبتهم (مادة 7) أو تسليمهم للمحاكمة (مادة 8).
. 3.2.2.1.2 المحكمة الجنائية الدولية  (CPI)
عكس محكمة العدل الدولية التي تختص بالنزاعات ما بين الدول تنظر المحكمة الجنائية الدولية فقط في التهم التي يقرها نظامها الأساسي المتفق عليه ضد الأشخاص. يقَرٌ نظام المحكمة الجنائية الدولية الأساسي أولوية المحاكم الجنائية الوطنية، وتتمثل ثانوية المحكمة الدولية بأنها لا تنظر ولا تصدر أحكامها إلا في الحالات الآتية (1) بلد المتهم طرف في عهد المحكمة (2) وقوع الجرم في بلد طرف في اتفاقية تأسيس المحكمة (3) أقر بلد ما اختصاص المحكمة في قضية وقعت في إقليمه أو تعلقت بأحد رعياه رغم أن البلد لم يكن طرفا في اتفاقية المحكمة. يستثنى من ذلك إحالة قضية بقرار مجلس الأمن وفق الباب 7 من ميثاق الأمم المتحدة.
.2.2  العرف الدولي
يؤسس العرف الدولي أيضا في البعض من بنوده الآمرة مبدأ الاختصاص القضائي العالمي خارج إرادة الدول.
.1.2.2  جريمة الإبادة الجماعية
وفق المادة 6 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدت في 1948 يحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها. لكن لم يكن اختيار هذه المحكمة إجباريا كما لم يمنع مبدأ الاختصاص القضائي العالمي. بعد مرور 62 سنة على الاتفاقية أصبح الأمر مختلفا. لقد جاء ضمن أعمال محكمة العدل العالمية (اثر طلب رأيها من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة - حول التحفظات عند الموافقة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية مثلا- أو على أساس نزاعات دولية مثل قضية البوسنة والهرسك ضد جمهورية يوغسلافيا، قرار يوليو\تموز-11 -1996) أن ولاية القضاء الوطني في مكافحة جريمة الإبادة لم تحدٌه الاتفاقية جغرافيا. وبالتالي فانه من واجب كل الدول الراقية وبغير سابق الالتزام باتفاقية منع جريمة الإبادة، متابعة ومحاكمة كل المتهمين بارتكابها. وقد أكٌدت محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا أن واجب المتابعة تفرضه قواعد العرف الدولي.
.2.2.2  الجريمة ضد الإنسانية
خصص القانون الأساسي لمحكمة نورنبرغ العسكرية المادة 6 س لتعريف الجريمة ضد الإنسانية التي قررت محكمة العدل الدولية أنها ممنوعة بموجب قواعد العرف الدولي الإلزامية (ius cogens) قواعد العرف الدولي الإلزامية تلك تقع على رأس هرم القانون الدولي حسب المادتين 53 و 64 من معاهدة فيينا الخاصة بالاتفاقيات الدولية، وتمثل بروز نظام عام دولي إجباري. لقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة في تقرير له بتاريخ 19 يوليو\تموز 2000 وافق عليه مجلس الأمن (قرار1314)، بأهمية مبدأ الاختصاص القضائي العالمي لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية.
.3  فوائد مبدأ الاختصاص القضائي العالمي
كانت القرصنة أول جريمة عالمية تقع خارج حدود السيادة. كيف يمكن متابعة مرتكبيها ولم يكن ممكنا ربط أحد عناصرها بأية دولة؟ إن مبدأ الاختصاص القضائي العالمي هو الحل الوحيد للمعضلة. لكن فوائد مبدأ الاختصاص القضائي العالمي لا تقتصر على هذا الجانب فقط.
.1.3  الفائدة الأولى
أهمية هذا المبدأ الكبرى تكمن نظريا في كون أن أية حصانة لا يمكن أن تحول دون محاكمة المجرمين الكبار وأن أي بلد لا يمكن أن يكون مكان لجوء لهم حتى ولو كانوا من كبار مسؤولي الدولة.
 2.3. الفائدة الثانية
تكمن الفائدة الثانية في أن تدخل منظمة الأمم المتحدة جد استثنائي حتى في حالة خروقات مكثفة لحقوق إنسانية أساسية رغم صلاحيات المنظمة التي يمكنها فرض عقوبات (حصار مثلا) أو استعمال القوة. ويمكنها أيضا إنشاء محاكم خاصة بقرار يصدر عن الجمعية العامة أو مجلس الأمن كما كان الأمر في حالتي يوغسلافيا السابقة ورواند(هامش2). فمن الصعب جدا أن يحصل اتفاق داخل الأمم المتٌحدة في هذا الشأن. حتى إذا ما تم ذلك بأغلبية أو بإجماع فإن سلبيات القرار يتحملها المدنيون الأبرياء أكثر من المجرمين. زيادة على ذلك وفي حالة تدخل عسكري وتوقف القتال أو المجازر، فالكراهية تبقى ما دامت الشعوب والضحايا تعتبر أن العدالة لم تأخذ مجراها. ثم إن المحاكم الاستثنائية تُنشأ عن طريق الاستعجال وحسب حالات معينة ويكون اختصاصها محدودا في زمن  الوقائع (prorata temporis ) وأشخاص محدودة ومعيٌنة الجنسية (ratione personae).
.3.3  الفائدة الثالثة
من المفيد أن نركز على الفائدة الثالثة، لأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية يجعل البعض يظن أن لا فائدة بعدها لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي. و الحقيقة أن المحكمة الجنائية الدولية جاءت مكمٌلة للمحاكم الوطنية، وهي تعتبر ثانوية بالنسبة لها كما جاء في ديباجة القانون الأساسي للمحكمة الدولية ومادته الأولى. تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها تجاه الدول الأطراف في حالتين فقط: (1) عندما لا يمكن للجهات القضائية المحلية التحرك، (2) أو عندما ليس لها إرادة للتحرك. هذا ما جعل الأستاذ سيرج سور(Serge Sur)  يقول:" يعتبر التماس المحكمة الجنائية الدولية بمثابة فشل ضمني للمحاكم العادية ويعني بالتالي أن الدول لم تقم بواجبها".
تبرز عناصر أخرى أهمية مبدأ الاختصاص القضائي العالمي ومنها:
أ - ليس لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية أثر رجعي. وطبقا للمادتين 11و42 من قانونها الأساسي لا يمكن للمحكمة النظر في الجرائم التي ارتكبت قبل 1 تموز/يوليو 2002.
ب-  صلاحيات المحكمة محدودة من ثلاثة جوانب: فهي تنظر فقط في الجرائم المرتكبة في البلدان أطراف الاتفاقية. ثم يمكن لمجلس أمن الأمم المتحدة أن يشل أعمالها بتوقيف التحريات لمدة سنة قابلة للتمديد (مادة 16 من القانون الأساسي). أيضا يمكن لأية دولة رفض مدة 7سنوات اختصاص المحكمة في جرائم الحرب (وفق المادة 124).
ج - تبعية المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة للدول، لأن ليس لديها قوة بوليس ولا سجون لتتمكن من إلقاء القبض على مرتكبي الجرائم لمحاكمتهم أو سجنهم بعد إدانتهم. كما يصعب لها جمع الأدلة والاستماع للشهود والضحايا أو ضمان أمنهم من الإنتقام بغير مساعدة الدول. ضعف المحكمة وتبعيتها للدول يبرز فائدة مبدأ الاختصاص القضائي العالمي لمكافحة غياب المحاسبة.
ح-  يمكن لأية دولة طرف في اتفاقية إنشاء المحكمة أن ترفض كليا أو جزئيا مساعدة المحكمة رغم واجب التعاون بموجب المادة 86, هذا كلٌما رأت أن ذلك يمسٌ أمنها القومي. كما تمنع المادة 98من القانون الأساسي المحكمة من أن تطالب دولة طرف بتقديم أو بمساعدة تقتضي من الدولة الموجه إليها الطلب أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانة الدولة أو الحصانة الدبلوماسية الشخصية أو المالية تابعة لدولة ثالثة ما لم تحصل المحكمة على تنازل الدولة الثالثة.
خ-  من الواضح أن الدول التي ترفض وجود المحكمة الجنائية الدولية هي دول قوية لا يستهان بها (الولايات الأمريكية المتحدة وروسيا واليابان والصين والهند وباكستان وإسرائيل وكل الدول العربية ما عدا الأردن). و تحارب أمريكا صلاحيات المحكمة صراحة بحيث أبرمت مع 65 دولة (إحصاء 1 أكتوبر2003) اتفاقية تعطي لرعايا أميركا الحصانة، كما عاقبت 32 دولة أخرى بسبب رفضها إبرام الاتفاقية نفسها.
د-  عكس ما يعتقد الكثيرون، لم يكن تعريف الجرائم ضمن القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التعريف الأوسع لها في الفقه الجنائي. اكتفى كاتبو القانون بالمصطلحات وعناصر الجرائم المعروفة سنة 1998، مما جعلهم يحتفظون في المادة 10 بالقول أنه ليس هناك ما يقيد أو يمس بأي شكل من الأشكال قواعد القانون الجنائي الدولي القائمة أو المتطورة.
4. مضمون وشروط استخدام مبدأ الاختصاص القضائي العالمي

هنالك نظريتين لمعرفة مضمون الاختصاص القضائي العالمي: الأولى، ضيٌقة تجسٌد الاختصاص القضائي العالمي الإجباري، والثانية بمضمونها الأوسع اختيارية، لأنها تتجاوز حدود ما هو إلزامي بموجب القانون الدولي التعاقدي والعرفي.وبما أن الاختصاص القضائي العالمي يعتبر وسيلة مكافحة غياب محاسبة من يقومون بجرائم دولية ضد الحقوق الأساسية للإنسان يكون لنا قول حول المنظمات التي تريد استعماله ضد الشركات متعدٌدة الجنسيات لمخالفتها الحقوق الاجتماعية ونظم البيئة.
1.4  مضمون مبدأ الاختصاص القضائي العالمي
تعدٌ نظرية اختصاص قضائي واسع لصالح الضحايا لأنها لا تشترط ما يربط بين قضية انتهاك خطير للحقوق الأساسية للإنسان والقاضي الوطني. نلاحظ في الواقع أن النظرية الأكثر اتساعا هي النظرية الضيٌقة الإجبارية والتي تشترط في أقصى درجة اتساعها أن يسكن الجاني في تراب السيادة ولو مؤقتا أو أن يكون عابرا فيه.
1.1.4.  الاختصاص القضائي العالمي الاختياري أو المطلق
استعمل الاختصاص القضائي العالمي المطلق قديما ضد العقيد النازي  إشمان مثلا الذي تمت محاكمته بإسرائيل سنة 1961 بناءا على قانون 1950 الذي يمكن بموجبه محاكمة أجانب اقترفوا جرائم خطيرة خارج حدود بلد القاضي (أثناء الأحداث لم يكن لإسرائيل وجود وكانت الضحايا تحمل جنسيات مختلفة). جاء في حيثيات قرار المحكمة العليا الإسرائيلية أن " طبيعة الجرم العالمية هي التي تعطي لكل دولة حق معاقبة من شارك في ارتكابها".سبق لبلجيكا أخذ هذه النظرية بعين الاعتبار ضمن قانوني 16 حزيران/يونيو 1993 و 10 فبراير/شباط 1999. وتمت محاكمة أربعة روانديين على أساس جريمة الإبادة الجماعية سنة 2001 . كذلك أودعت شكوى ضد شارون لتتم مراجعة قوانين مكافحة الجرائم الدولية. كما جاء في المادة  8 من قانون نيوزيلندا المتعلٌق بإدماج قانون المحكمة الجنائية الدولية ضمن القانون الوطني، بانٌ للقاضي الوطني اختصاص في النظر في الجرائم الخطيرة التي تُحرمها المحكمة الدولية حتى في حالة ما إذا تمت الوقائع خارج تراب السيادة وتعني فقط أجانب. لكن لم  يسمح القانون النيوزيلندي بالمحاكمات الغيابية.
2.1.4.  الاختصاص القضائي العالمي الإجباري أو النسبي
تراجعت بعض الدول عن اختيارها السابق لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي المطلق. يشترط القانون البلجيكي الجديد آب/أو أغسطس 2003 بأن يكون للمتهم مقر رئيسي في بلجيكا وأن تكون الضحية من جنسية بلجيكية أو مقيمة فيها منذ 3 سنوات على الأقل يوم تاريخ الوقائع. غيٌرت سويسرا قوانينها أيضا بعد الشكوى التي أُقيمت ضد وزير الدفاع الإسرائيلي بحيث لا تقبل شكوى بعد ذلك إلاٌ إذا كانت للمتهم علاقة وطيدة مع سويسرا. فرنسا وألمانيا وأستراليا وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية (لاسيما باستخدام قانون يرجع لأكثر من قرينين وهو: Alien Tort Claims Act)  وبلدان أخرى، أخذت تدابير قانونية ترسٌخ مبدأ الاختصاص القضائي العالمي النسبي بدرجات متفاوتة. أُخذت أكثر التقنيات الجديدة بمناسبة الانضمام إلى اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.
2.4 ماذا عن استعمال الاختصاص القضائي العالمي ضد الشٌركات الدولية ؟
تحاول بعض المنظمات غير الحكومية جاهدة توسيع استعمال مبدأ الاختصاص القضائي العالمي ضد الشٌركات الدولية عند خرق هذه الأخيرة للحقوق الاجتماعية والبيئية. لم تكن دوافعها كلها من غير مبرٌر أو أثر أيضا. لكن يُفسد التوجٌه مضمون المبدأ ويشوٌش على مقاومة غياب المحاسبة عند ما تُخترق الحقوق الإنسانية الأساسية مثل حق الحياة ومنع التعذيب الخ، والتي تكون آثارها مستديمة. تختلف الحقوق الإنسانية الأساسية عن غيرها لأنها غير قابلة للحبس أو التجزئة، كما جاء في معظم الاتفاقيات الدولية المتضمنة للحقوق (أنظر المادة 4من معاهدة الحقوق المدنية والسياسية مثلا)، سوى في السلم أو في الحرب. تعتمد آراء مؤيدي توسيع الاختصاص القضائي العالمي لمقاضاة الشركات على مبدأ " عالمية وعدم تجزئة حقوق الإنسان". بيد أن المبدأ ليس قناعة فلسفية أو أدبية-أخلاقية بل هو مشروع مشترك وديناميكية تبادل وبناء تتمحور فيه الإيجابية (الاعتراف بالحقوق) والسلبية (إبعاد الخروقات الفادحة للحقوق الحياتية). ولا يمكن الالتقاء حولها إلاٌ إذا تم الاتفاق حول أولويات الحقوق. كتب روزفلت حول قصد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إننا نتشوٌق لعالم تكون الإنسانية فيه قد تخلٌصت من الرعب ومن الجوع. لقد أصاب بتقديم الأمن على العيش.
.5  معوقات تطبيق الاختصاص القضائي العالمي
المعوقات التي تقف حائلا في وجه تطبيق مبدأ الاختصاص القضائي العالمي ليست فقط مادية، وإنما إيديولوجية وسياسية بالدرجة الأولى. للأسف، لا يكفي الواجب المفروض على البلد للقيام قضائيا بملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية للتأكد من تنفيذه ذلك، انطلاقا من الاختصاص القضائي العالمي.
.1.5 معوقات مادية   
معوقات تطبيق الاختصاص القضائي العالمي المادية تعود لكون هذا النظام لا يجد تأييدا مطلقا من قبل الدول. فتجميع الأدلة على جريمة ارتكبت على بعد آلاف الكيلومترات أحيانا، و استماع و مواجهة الشهود و الضحايا الذين يطرحون صعوبات أمنية بالنظر لإمكانية الانتقام منهم - إضافة لغياب تعاون الدولة التي ارتكبت الجريمة على أرضها، كلها أمور قد يكون من الصعب تجاوزها. وهو ما لا يشجع الدول على تنفيذ الالتزام بالاقتصاص من مقترف الجرم المفترض. ذلك بالرغم من أن مكافحة غياب المحاسبة تتطلب تضحيات.
.2.5 معوقات سياسية
الحدود بين القضائي والسياسي غالبا ما تكون هشة، بحيث تطرح بقوة مسألة الحد المعياري. يتمسك رافضو مبدأ الاختصاص القضائي العالمي عادة بالقول أن الفصل في الأوامر القضائية لا يجب أن يتعدى حدود البلدان. وهو ما كرسه مفهوم السيادة الوطنية الذي يقضي بعدم اختصاص الأجهزة القضائية لدولة ما في محاكمة من هم ليسوا من رعاياها واقترفوا جرائم على أرض أجنبية وضد أجانب. للأسف الواجب القضائي بملاحقة من يفترض أنهم ارتكبوا جرائم دولية لا يكفي دوما للتأكد من أن البلد قد قام بملاحقات على قاعدة الاختصاص العالمي.
مسألة السيادية هذه لا يتم تطبيقها في حالة التبعية بين البلدان، مثلا بين بلدان الاستعمار القديمة و مستعمراتها. فمبدأ الاختصاص القضائي العالمي لا يطبق عند ارتكاب جريمة ضد حقوق الإنسان الأساسية إلا إذا اقترن بمصالح سياسية و|أو اقتصادية في أغلب الأحيان. المصالح السياسية والاقتصادية تعيق أحيانا كثيرة -أو تساهم في- تطبيق حكم القانون. وهكذا، بسبب غلبة الطابع السياسي للجرائم التي تمس الإنسانية يستمر الجدل قائما كترجمة لوجود سياسة المكيالين والمعيارين. مما يحدو ببعض الدول المطالبة -أو الرفض الشديد- بمبدأ الاختصاص القضائي العالمي تبعا لمصالحهم الآنية.
.6  خاتمة
خلال زمن طويل عاش وضع حقوق الإنسان، إن من ناحية المحتوى أو الآليات التي تؤمن تطبيقها، في كنف التصور السياسي للعالم ومن خلال المفاهيم السائدة عن دور الدولة وسيادتها داخل وخارج حدودها.
التحولات التي حصلت في العقد الأخير من الألفية الثانية كانت عميقة بحيث لم يتوانى البعض عن الحديث عن زمن جديد، وموضوعة التقاضي في ميدان الحقوق الإنسانية تعكس مدى هذه التحولات. من المهم التذكير بالطابع التقدمي لمبدأ الاختصاص القضائي العالمي الذي فرض نفسه أكثر فأكثر في ميدان مكافحة غياب العقاب.
للأسف، ما زال هذا المبدأ محاربا بالرغم من أنه يشكل وسيلة مكافحة وردع مع إمكانية رفع دعوى أمام قاضي محلي أجنبي لمنع دكتاتور مقبل من انتهاك فظيع لحقوق الإنسان. فالعالم الأحادي القطبية الحالي يقود لانقلاب كامل للوضع ويبرز دور المجتمع المدني العالمي. إن العمل الجبار الذي قامت به الجمعيات غير الحكومية في روما، بالرغم من مقاومة الحكومات لها، خلال النقاشات الأخيرة وعند تبني نظام المحكمة الجنائية الدولية، كان من شأنه أن عزز بشكل كبير احترام حقوق الإنسان. تم إحراز هذه الانتصارات وفي الوقت نفسه مراعاة التوازنات الضرورية بين الأنظمة القضائية للدول، بين حقوق المتهمين وضحاياهم وبين القضاة والمدعين العامين ومحامي الدفاع.

هذا النوع من الحراك يجب أن يستمر كي ينتصر الإنساني على ما هو غير إنساني، خاصة عبر تطبيق مبدأ الاختصاص القضائي العالمي وفي كل مكان. بذلك، يصبح الالتجاء للمحكمة الجنائية الدولية المحاولة الأخيرة، أي الشواذ عن القاعدة، التي هي اللجوء لأي قاضي وطني يثق بعدالته بفضل مبدأ الاختصاص القضائي العالمي.


الهوامش
1. عنوان و نص المحاضرة التي القاها الاستاذ ابراهيم التاوتي بالمنامة عاصمة البحرين في2001, ثم تم نشرها سنة 2002ضمن الموسوعة الصغيرة العربية لحقوق الانسانa " Short Universal Encyclopaedia of Human Rights : Reflections & Fundamental Texts ", Publishers Al Ahali Damascus, Eurabe & Arab Commission for Human Rights - Paris, 2002, Vol. II, pp. 17-32.
2. عكس ما يظنٌ الكثيرون، لا تقتصر صلاحية إنشاء المحاكم الخاصة علي مجلس الأمنبل للجمعية العامة للأمم المتحدة حق إنشائها أيضا كما فعلت لما أنشأت محكمة إدارية(TANU)وقوة عسكرية إستعجالية لتتمركز بين القوات المصرية والإسرائيلية(FUNU1) سنة 1956. ُوسٌعت صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار30نوفمبر1950سمي قرار ‌‌‌‍‍‘‘ آشسون –Acheson’’ لتجنٌب شل قدرات مجلس الأمن بسبب استعمال حق الفيتو أثناء الحرب الباردة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق