من كتاب : أبحاث في الاقتصاد
اصدار : حزيران 2007
مركز الامام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
الدين إيديولوجية، وبما أنّ لكل إيديولوجية منطقاً خاصاً تفسّر به التاريخ والحوادث، فإن البعض يضع التفصيل المادي للتاريخ، والبعض الآخر يعتبر الدين والقومية محرّكاً للشعوب. فما هو المنطق الإسلامي الذي يفسّر الحوادث التاريخية؟
هنا ينبغي أن أوضح نقطة أساسية، وهي أنّ كلمة إيديولوجية نحاول أن نستعين بها، لأنها أصبحت واضحة الآن، لإلقاء الضوء على الفكر الإسلامي، ولوضع العقيدة والتقاطع الإسلاميين في موضعهما الطبيعي من التفكير. كما نعلم في قضية الاقتصاد، فنحن عندما نقول الاقتصاد الإسلامي علينا أن نعرف أنّه ليس في الإسلام فصلاً باسم علم الاقتصاد، لا في القرآن، ولا في كتب السنّة، ولا في سيرة الأئمة أو سيرة مَن بعدهم من العلماء. وفي كتب العلوم الإسلامية لا نجد علماً باسم علم الاقتصاد، لكن إذا درسنا الأحكام الإسلامية في العلاقات المالية بين المسلمين بعضهم مع بعضهم وبينهم وبين غيرهم من المسلمين، إذا درسنا أسلوب الإسلام في الإنتاج والإستهلاك، نكتشف مذهباً اقتصادياً، ونتأكد من أنّ الأحكام الإسلامية لم تأتِ صدفة ولا عفواً، بل جاءت مركّزة على قواعد اقتصادية معيّنة، وهذا يسمى بالمصطلح الحديث "المذهب الاقتصادي" لا علم الاقتصاد، لأنّ علم الاقتصاد علم حديث وُضعت له الأسس مؤخراً. إذاً، عندما نقول "الاقتصاد الإسلامي" نقصد المذهب الاقتصادي في الإسلام، أي أنّ كل باحث عندما يقرأ الأحكام الاقتصادية، مثلاً: الميراث، وكيفية الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة، كيفية الغنائم والأرباح، كيفية الإقطاع (أي اقتطاع الأراضي)، كيفية ملكية الأراضي- ملك خاص، أراضٍ مفتوحة عنوة ملك المسلمين جميعاً، أراضٍ ملك الدولة أو ما يسمى بـ"الأنفال"... عندما يقرأ الباحث هذه الأحكام، من هنا وهناك، يكتشف مذهباً إقتصادياً في الإسلام. والأمر في الإيديولوجية مشابه لما نقوله في الاقتصاد. ففي الإسلام لم يرد فصل باسم الإيديولوجية، بل لم يرد فصل في الإسلام باسم العقيدة، لأنّ الإسلام دين واحد، دعا رسول الله الأمة بالطريقة المعروفة في مكة أو الأحكام كان يقول: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا". طبعاً "قولوا" لا تعني فعل القول فحسب، وإنما التزموا. و"لا إله إلاّ الله" لا تعني فقط في الأصنام بل الآلهة الأرضية بكل معنى الكلمة، بشكل لا يمكن أن نقول إنّ الإسلام فصّل فصولاً وأبواباً، وجعل فصلاً خاصاً باسم الإيدلولوجية، بل من خلال الأحكام الإسلامية يكتشف الباحث إيديولوجية إسلامية. وهكذا سنصل إلى المنطق الذي يفسّر الإسلام به التاريخ، وهذا شأن بقية المدارس الفكرية. مثلاً، من أهم وأشهر المدارس الفكرية المعاصرة المدرسة الماركسية. والماركسية فكرة مستندة إلى "ماركس". فمن كان "ماركس"، وماذا يكون؟ فكرة اقتصادية أولاً تبنّاها "ماركس" كعالم اقتصادي لا كقائد ولا كزعيم، فهو كعالم يدرس الاقتصاد ويكتشف التطورات الاجتماعية وارتباطها بالتطورات الاقتصادية، ثم كناظر متفرج على شرفة التاريخ (مبني في مؤلفات "ماركس" الأولية) يقول إنّ التطورات الاجتماعية النابعة عن التطورات الاقتصادية تتحول وتتغير وتبشّر بالمستقبل المعيّن. فما هو دور "ماركس"؟ لا شيء سوى الاستنباط. الرأسمالية في رأي "ماركس" تنمّي في أعماقها وأحشائها بذور الانفجار، وتنفجر ربما دون تحرك ماركسي. تحوّل "ماركس" من عالم اجتماعي إلى زعيم سياسي، أي حاول أن يساهم في تفجير الرأسمالية بالدعوة إلى الثورة وبشعار التغيير. ففي المرحلة الأولى كعالم وفي المرحلة الثانية كزعيم. كان دور "ماركس" في الإقتصاد، اقتصاداً معيّناً ذلك الذي يسمّيه بالشيوعية. بعد ذلك يحاول "ماركس" أن يركّز هذه المدرسة الاقتصادية على أسس فلسفية ففتش عن فلسفته هنا وهناك، فاعتمد المدرسة الفكرية المشهورة بـ"المادية"، وهي ليست من أفكار "ماركس" ولا من اختصاصاته، إنما كعالم اقتصادي اجتماعي اعتمد المادية كفلسفة تلائم اقتصاد "ماركس" المادي. الفلسفة المادية قديمة جداً، من اليونان ولها تطورات كثيرة: المادية الفلسفية، المادية الخيالية، المادية العلمية، وهي ليست لـ"ماركس" وإنما اعتمدها "ماركس" لملاءمتها اقتصاده، ولأنه فكّر أنّ رجال الدين في أوروبا هم الذين يحمون الاقطاع ويحمون الرأسمالية لذلك قلع جذورهم من الأساس. وهذا الأسلوب المادي في الفلسفة منسجم مع طبيعة اقتصاد "ماركس". ثم انه افتعل منطق الديالكتيك، وهو ليس منطقاً ماركسياً وإنما أُسس أيام سقراط ثم تطور في العصور المختلفة. ولتنتقل الماركسية بعد ذلك من مرحلة العلم إلى مرحلة الزعامة، فتساهم في تفجير المجتمع المعاصر لـ"ماركس"، فاعتمدت نظرية باسم "المادية التاريخية"، والتي ليست جديدة أيضاً. وإنما الربط بين هذه النظرية الفلسفية المادية، واستعمال المنطق الديالكتيكي، واعتماد المادية التاريخية بتفكير "ماركس"، تحولت إلى وحدة فعالة من خلالها يعطي "ماركس" تفاصيل وآراء وأبحاثاً وموقفاً لكل شيء، والسبب واضح، فعندما يريد "ماركس" أن يدعو العمال إلى حركة يضع أمامهم تفسيراً تاريخياً ليقول لهم إنّ التاريخ كله يتحول إلى أسباب إقتصادية وأنتم المحوّلون للتاريخ، فأراد أن يعرض للناس صورة عن التاريخ، ذلك الذي يسمّيه "المادية التاريخية"، تمهيداً لتحركه من الوضع العلمي المحض إلى الوضع السياسي الذي وصل إليه "ماركس" في أواخر حياته. إذاً، هذه المدرسة المشهورة تستعين أيضاً بالمنطق الديالكتيكي وبالفلسفة المادية والمدرسة المادية التاريخية. تستعين من هنا وهناك وليست منبثقة من أصل المدرسة الفكرية. إذاً، نستطيع أن نستنتج حتى الآن: 1- لا نكتشف من الإسلام إقتصاداً أو إيديولوجية معيّنة. 2- المدارس الفكرية تستعين بالفلسفة من هنا وهناك لتأخذ ما ينسجم مع أهدافها وأفكارها. بعد هاتين المقدمتين ندخل في حديثنا المعيّن. ما هي نظرية الإسلام في التطور التاريخي؟ هنـا، كالاقتصاد، علينا أن نقول مذهباً وليس علماً، لأنه لا يوجد تفسير معيّن للتاريخ في القرآن أو السيرة. علينا أن نكتشف من خلال توجيهات وتعليمات الإسلام في مختلف الشؤون، الرأي الإسلامي في هذا الموضوع. يوجز رسول الله (ص) الفكرة التحولية للتاريخ بالكلمة التالية: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا". هنا علينا أن نعيد النظر في كثير من الأشياء ونفكر بها، تفلحوا أي تصبحوا مفلحين. أنتم لستم في حالة تحسدون عليها. المجتمع المكي أو المجتمع العربي من ورائه لم يكن في حالة طيبة، كانت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الظروف الخلقية والظروف المالية والنفسية والعقائدية كلها بصورة غير مرضية حتى سمّي المجتمع آنذاك بـ"المجتمع الجاهلي". يقول لهم: "قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا" يعني تحوّل المجتمع من الوضع الذي كان موجوداً إلى مجتمع آخر يسعد فيه الفرد وتسعد فيه الجماعة يحتاج إلى موقف الالتزام بالله الواحد. معنى الجملة يحتاج إلى بحث طويل حول نفي الآلهة الأرضية أو ما نسمّيه اليوم بالأصنام، تحطيم أصنام المال، أصنام السياسة، أصنام الجاه أو ما نسمّيه بالإقطاع. المصطلح الديني لهذه الأمور والدعوة إلى وحدة الناس معتمدة على أساس الإيمان بالله الواحد. هنا يبدو أنّ طريقة تطوير المجتمع المكي إلى مجتمع سعيد إنما يكون بالعقيدة وليس بالإقتصاد وحسب. إنطلاقاً من هذه النقطة، نقول بأنّ سبب التطور في المجتمعات، كما تقول المادية التاريخية، أن تكون الظروف الاجتماعية المحيطة بالمجتمعات مبالغة في تأثير الاقتصاد. لا شك أنّ الوضع الاقتصادي يلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان، لكن أن نقول إنّ الوضع الاقتصادي هو كل شيء في حياة الإنسان مبالغة في الأمر. الإنسان يتأثر بالعامل الاقتصادي دون شك، لكن العامل الاقتصادي ليس هو جميع المؤثرات. هناك مؤثرات أخرى في حياة الإنسان، ولذلك ترى إنساناً في طبقة اقتصادية واحدة مع إنسان آخر ولكن يختلف معه في التفكير. ونحن شاهدنا في الأنظمة الاقتصادية الحديثة أمثلة كثيرة، فوجدنا في أبناء الثورة السوفياتية تفاوتاً كبيراً، لا في قادة الثورة فحسب لأنهم أبناء ما قبل الثورة، لكن حتى في أبناء الثورة وجدنا خلافات عقائدية ضخمة أدت إلى التصفيات والقتل والسجن والإبعاد، كما حصل مع الثورة الفرنسية أو أي ثورة أخرى.. فلو كانت الطبقية، أو وحدة الطبقة، هي التي تكوّن الفكر الموحد، وبالتالي تنفي الصراع الطبقي في التاريخ، لما حصل ذلك. تاريخهم مليء، بالأمس كان "ستالين" و"فيريام" و"ماريكوف"، وكانت مؤثرات أخرى وشخصيات أخرى.. والعكس أيضاً هو الصحيح، فالإنسان يوجد في الطبقات الاقتصادية المتفاوتة تشابهاً في التفكير. "روبرت أوين" البريطاني، الذي يسمى بـ"أبو الاشتراكية في العالم"، كان رأسمالياً يملك الكثير من أسهم المصانع، وهو الذي وضع قوانين لتحديد ساعات العمل، ولمنع الأطفال من العمل، ولإعطاء بعض الحقوق للعمال، وهو رجل ليس من أبناء الطبقة البروليتارية. إذاً، ليس الفكر الاقتصادي وحده يكوّن الفكر والإيديولوجية والمصطلح وخط السلوك الخ.. بل هناك عوامل عديدة، لا شك أنّ الإنسان وليد بيئته، فالمؤثر في العامل الإقتصادي تؤثر فيه عوامل أخرى، ومن جملة العوامل الأخرى درجة الحرارة والرطوبة والقرب من البحر والبعد عنه، والعوامل العائلية. ونحن لا يمكننا أن نتجاهل عامل الوراثة والدعوات الروحية، ونحن لا يمكننا أن نقول إنّ النبي محمداً (ص) لم يؤثر في تاريخ العالم، ومهما حاولنا أن نعطي تفسيراً مادياً لمحمد ولحركته نكون قد بالغنا وتصرفنا في التاريخ حسب ذوقنا ورغبتنا، ذلك أنّ حركته لم تكن حركة اقتصادية محضة وإنما كانت حركة روحية تؤثر في خلق الاقتصاد المكي والمديني. لا يمكننا أن نفسر جميع العوامل المؤثرة في حركة التاريخ في عامل اقتصادي محض، بل هناك عوامل أخرى ترجع لطموح الإنسان ولأهدافه وللرغبات السامية لدى الإنسان أثرت في تكوين المجتمعات من هنا وهناك. وهكذا بالنسبة للمنطق، نحن نعرف المنطق الديالكتيكي و المنطق القديم أو ما نسمّيه بـ"منطق أرسطو". علماء المسلمين استعملوا هذا المنطق أو ذاك كأسلوب للتفكير ورأي في المنطق، بإمكانكم أن تستندوا الى هذا المنطق أو ذاك، إذا اقتنعتم بهذا أو ذاك، في ذهنية التفكير. من باب المثل: من أسس المنطق الديالكتيكي أصل التضاد.. وله وجود فعلي يسمّى بالكسر، وهذا الوجود، أو هذه الظاهرة، تنمو خلالها عكسها وضدها، وذلك نسمّيه اليوم بـ Antithèse، ينمو Antithèse على حساب Thèse.. تدرجياً يقضي Antithèse على Thèse. كذلك Antithèse من خلال الصراع انتصر وتغيّر وجرّب. مما يؤدي أنّ الحكم في المستقبل ليس Antithèse لأنه متطور نسمّيه بـ Synthèse فيحكم هذا في المستقبل مع التغيرات التي جعلت من These على Antithèse. هذا أحد المبادئ الأربعة للمنطق الديالكتيكي: أصل التضاد. نرجع إلى الفلسفة الإسلامية. عندما نقول: الفلسفة الإسلامية نقصد فلسفة المسلمين لا الفلسفة الإسلامية أو الإيديولوجية الإسلامية، إنما علماء المسلمين قالوا: آراء المسلمين على ضوء الإسلام. في الفلسفة الإسلامية مبدأ باسم أنّ كل موجود مادي مؤلف من صورة ومن مادة، أو بتعبير آخر من هيولى وصورة. الصورة هي الحالة الفعلية لشيء تماماً مثل Thèse فكل شيء يحمل حالة استعداد للصيرورة، هذا التمكن والإمكانيات في ذات الشيء يسمى بالقوة أو بالهيولى. والموجود في حركة دائمة بين الصورة والمادة. فمع كل مرحلة تتحول الصورة الى المادة فتصبح الصورة مادة ثانية تعمل مادة أخرى وتتحول بطريق التطور كما يقول صدر الدين الشيرازي، وبطريق الخلع واللبس كما يقول ابن سينا. مثلاً البذرة، حبة القمح، هي جامدة لا تتحرك شيئيتها أو صورتها بأنها قمح أو These ، ولكن حبة القمح تصلح لأن تتحول الى سنبلة، ولكن حتى تتحول الى سنبلة تحتاج الى شروط مناسبة. إذاً، حبة القمح لها شيئية أخرى غير أنها حبة القمح. الشيء الثاني يسمى مادة بالهيولى، فتحول الحبة الى سنبلة يسمى بالقوة. الإنفصال الذي قاله فلاسفتنا هو نفسه الذي قاله الديالكتيكيون إنما بشكل آخر وهكذا.. إذاً، مبادئ الديالكتيك بشكل آخر تجد في سبيل الفلسفة أو المنطق المستعمل سابقاً. وبإمكان الفكر الإسلامي أن يختار منطقاً من هنا وهناك، وانتخاب الفكر الإسلامي بخضوعه لمنطق أرسطو أو بخضوعه لفلسفة Idéalisme تجنٍ. بإمكان الفلسفة الإسلامية أن تعتمد منطق أرسطو وبإمكانها أن تعتمد منطق الديالكتيك. إذاً، الإسلام مبدئياً في موقفه وتفسيره للتاريخ لا يقبل أنّ الإقتصاد هو المحرك الوحيد بل يقول إنّ هناك عوامل كثيرة تحيط بالإنسان وبالحكام وبالشعب وتؤثر في تطوير الدولة. وعلى صعيد المنطق، ليس المنطق الإسلامي هو منطق أرسطو، بل استُعمل منطق أرسطو من قِبل بعض العلماء المسلمين، كما استُعمل المنطق الجدلي بأصوله المتنوعة من قِبل علماء مسلمين آخرين. |