الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

اتفاق " أوسلو " بعد خمس سنوات | د. علي عقلة عرسان

اتفاق " أوسلو " بعد خمس سنوات ـــ د. علي عقلة عرسان

يصعب مجاوزة الذكرى المشؤومة، ذكرى مرور خمس سنوات على توقيع اتفاق أوسلو / 13 أيلول 1993 /، من دون وقفة عندها، فقد انقضت تلك المدة على المصافحة بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض بإشراف الرئيس الأميركي بيل كلنتون، وأصبح عمر الاستسلام الجديد الذي نبت على جذع كامب ديفد خمس سنوات، فرَّخ خلالها :‏

* المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية .‏

* التحالف التركي الإسرائيلي برعاية أميركية ذاك الذي يضع الأردن في احتياطه الاستراتيجي 

* اتفاقيات مؤتمر قمة شرم الشيخ، وتوابعها الأمنية .‏

* مشاريع ثنائية، مكشوفة وسريَّة ؛ صناعية وتجارية وسياحية وزراعية، بين أنظمة عربية وتجار وأصحاب رؤوس أموال عرب من جهة، وبين الكيان الصهيوني وأصحاب رؤوس أموال يهود من جهة أخرى .‏

خمس سنوات عجاف حبالى بالوهم والمرض، قدن إلى أسوأ أنواع التمزُّق والتهافت والهرولة نحو العدو في الحياة السياسية العربية على الخصوص، ولم تنج من مصابها وأوصابها مجالات الحياة العربية الأخرى؛ وأدت إلى :‏

** قيام علاقات مباشرة، دبلوماسية وغير دبلوماسية، بين الكيان الصهيوني وبعض البلدان العربية، من مستوى سفارة / الأردن / إلى مستوى قنصلية وملحقية تجارية ومكتب علاقات / المغرب، تونس، قطر، عُمان / .‏

** عقد أربعة مؤتمرات اقتصادية في الدار البيضاء وعمَّان والقاهرة والدوحة، كلها كانت خدمة للاستعمار الصهيوني في فلسطين ولمصالح حليفه الأول في المنطقة : الولايات المتحدة الأميركية .‏

** عقد لقاءات ثقافية نظَّمها العدو، أو شارك في تنظيمها ، أو كان وراء ذلك التنظيم، تحت غطاء اليونيسكو والاتحاد الأوربي على الخصوص ؛ وهدفت إلى تحقيق اختراق في الثقافة العربية لمصلحة الصهيونية والإمبريالية الأميركية، وإلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإعداد الذهن والوجدان العربيين للقبول به في النسيج العام والشامل للمنطقة .‏

** تجميد المقاطعة العربية لإسرائيل، عملياً، إن من الدرجة الثالثة أو أكثر، وجعل نظام المقاطعة عملياً حبراً على ورق، والتجرؤ على إصدار أحكام قاسية عليه وعلى من طبقه، من قبل الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، وسكوت العرب على ذلك النعت والتوصيف.‏

** انتشار الدعوة لنظام " شرق أوسطي "، ينظر لإحيائه شمعون بيريس ويدعو تحت مظلته إلى حل جامعة الدول العربية، التي أسماها بوقاحة " جامعة الكراهية "، وإقامة جامعة شرق أوسطية على أنقاضها تكون أولى ضحاياها أو استهدافاتها الهوية الثقافية العربية وما تبقى من روابط لأبناء الأمة.‏
وخلال هذه السنوات الخمس كشف العدو العربَ كما لم يكشفهم من قبل، واستخدمهم لأغراضه كما لم يستخدمهم من قبل، وجرَّهم إلى مواقعه كما لم يحدث أبداً من قبل : ممثلو دول عربية ثمان حضروا تشييع جنازة الإرهابي إسحق رابين في القدس المحتلة، وذرف بعضُهم عليه الدموع وعلى رأسهم الملك حسين ؛ وممثلو ثلاث عشرة دولة عربية حضروا مؤتمراً لم يسبق له مثيل : من حيث سرعة الإعداد والانعقاد والأغراض ونوعية التوجه وتنوّع الحاضرين ومستواهم، هو مؤتمر قمة شرم الشيخ، الذي عُقد لمناصرة الكيان الصهيوني المحتل ورئيس وزرائه السابق شمعون بيريس بوجه المقاومة العربية للاحتلال، بعد عمليات الجهاد الإسلامي وحماس ضد قوى الاحتلال في فلسطين المحتلة، ولا سيما عملية بيت ليد ؛ وقد أثمر ذلك المؤتمر فيما بعد مذابح منها "قانا"، التي مهدت بدورها لمجيء بنيامين نتنياهو وحزب الليكود إلى الحكم في دولة الإرهاب والاستعمار " إسرائيل "، التي تحكمها وتتحكَّم بقرارها عملياً المؤسسة العسكرية والأصولية اليهودية ـ الصهيونية صاحبة المشروع الاستعماري ـ الاستيطاني ـ العنصري، الذي ما زلنا ندفع غالياً جداً ثمن استهدافه لنا واحتلاله لأرضنا منذ نهاية القرن الماضي وطوال هذا القرن.‏

منذ " أوسلو " حتى اليوم مرت أحداث وسالت دماء وضاعت آمال وتغيرت أشياء كثيرة، وقيل عن ذلك الاتفاق البائس الكثير، وأنفق في سبيل دعمه وبقائه الكثير وتضررت من وجوده دول وتنظيمات وشخصيات، وأعلن عن موته مرات ومرات ولكنه لم يشيَّع بعد، وما زال معْقِد رجاء ساسة وسياسة، " ثقافة ومثقفين" : عربياً وغربياً . وها هو الرئيس الأميركي كلنتون يحاول بعث الروح فيه من جديد، وبعث الروح في رئاسته بذلك من جديد أيضاً، بتنفيذ المبادرة الأميركية الرامية إلى انسحاب ثان من 13.1% من أرض الضفة الغربية، بعد إفلاسه الأخلاقي وفضائحه المعلنة، وتفنُّنه في الكذب، وممارسته لإرهاب الدولة ضد منشآت مدنية في السودان ومعسكرات تدريب في أفغانستان، وكل منهما دولة ذات سيادة وعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، التي تتحكم الولايات المتحدة بمجلس الأمن فيها وترفض أن تدفع استحقاقاتها المالية البالغة مليار وربع المليار دولاراً أميركياً ؟!.‏

فما الذي جره علينا ذلك الاتفاق المشؤوم، اتفاق أوسلو، منذ يوم الاحتفال بتوقيعه في البيت الأبيض ؟! وما الذي يجره علينا باستمرار كل احتفال في البيت الأبيض يتصل بمنطقتنا، من مآس وويلات وكوارث ؟!‏

إنه ليس فقط :‏

- الانقسام في صفوفنا، والانهزام، وبؤس الإرادة وتهافتها، ذاك الذي نرى أوضح أنموذج له في الساحة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، حيث يستسلم للعدو من دَخل " أوسلو " ويكابر في المضي عبر جحورها إما لتحقيق التزام وارتباط قديمين مستحقي الوفاء، وإما لكي لا يقرَّ بأنه أخطأ وأثِمَ حين ساوم وتواطأ وفرَّط وحتى خان في مجال أقدس القضايا وأشرف النضال، قضية فلسطين والعمل على تحريرها ؛ وحيث يتآكل جهد من هم خارج " أوسلو " من الفلسطينيين بمرور الزمن لأنهم يرون ما فيها من كوارث تحل بالشعب الفلسطيني وقضيته، ولا يستطيعون أن ينهوا أمرها ليبدأ مشروعهم المنقذ المحرِّر بقوة الشعب الفلسطيني والأمة العربية كلها !؟‏

- وليس فقط الإعلان الصريح عن سياسة عربية قطرية منفردة، تعلي شأن نظامها وحكامها ومصالحها على الشأن القومي كله وعلى ما يتصل به من ثوابت وقضايا، وتبدي استعدادها للاستعانة بالشيطان وبكل قوة قهر وبطش في العالم عند الاقتضاء، ضد أمتها، وتتنازل عن مواقفها المبدئية وحقوق الأمة التاريخية المتعلقة بتلك القضية، إذا ما طُلب إليها أن تفعل ذلك، كما تبدي الاستعداد لأن تفتك بأمتها إذا ما كان ذلك شرطاً من شروط بقائها ودخولها تحت سقف الحماية؟!‏

- وليس الضعف المتنامي، الذي يؤدي إلى أن تقبل معظمُ السياسات العربية بما تيسَّر من فتات حقها وحق الأمة، قبل أن " تخسر وجودها " منفردة ـ وكأنما لا تكون موجودة إلا بالتبعية لسواها، وأن كل تنازل جزئي للقريب أعظم وأصعب عندها من تنازلها عن استقلالها ومصالحها للغريب ؟! ـ وتخسر حقاً لا تحميه قوة. متجاهلة حقيقة أن تخليها عن الحق يجرده ويجرد الأمة من القوة ؛ فالقوة التي تنبع من جوهر الحق لا تكفي كما نعلم لحماية الحق، وإن كانت تشكِّل دافعاً قوياً للعمل من أجل بلوغه واستنقاذه، ولابد لذلك الاستنقاذ من إقبال المؤمنين بحقهم على تكوين قوة وإعمال إرادة لحماية ذلك الحق !؟‏

ـ وليس الموقف المتراجع في المحافل الدولية عن كثير جداً مما حققناه بالنضال المر على طريق القضية الفلسطينية، ومنه نقض القرار 3379 الذي كرس الصهيونية حركة عنصرية ؛ وعدم تجديد قرارات تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير . والتفريط بما توصلت إليه المجموعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية من اعتراف دولي بالمنظمة بلغ أكثر من ثمانين دولة، كان معظمها يقطع علاقاته بالكيان الصهيوني أو يحد من تلك العلاقات استجابة للحق الفلسطيني والمطالب العربية العادلة !!‏

لقد خسرنا ذلك كله بسبب " أوسلو " بالدرجة الأولى لأنها أعلنت : " سلام الفلسطينيين مع إسرائيل واعترافها بحقها في الوجود وأعطت للاحتلال شرعية قبل أن تحصل على شرعية وجودها وسيادتها ؛ وخسرنا أيضاً ما هو أكبر وأعظم من هذا كله، جراء اتفاق " أوسلو " والمعاهدة الأردنية ـ الصهيونية، وجراء كامب ديفيد من قبلهما، وهو الانهيار العام الذي ما زال مستمراً في أعماقنا وفي مجتمعاتنا وأجيالنا وقيمنا وعلاقاتنا المبدئية بقضايانا القومية، وانكشفنا أمام أطماع الآخرين بنا، وهي أطماع تتعاظم ويتفاقم شرها يوماً بعد يوم .‏

لقد أعلنا أن خيار " السلام " هو خيار استراتيجي عربي شامل، كان ذلك قديماً منذ قمة فاس التي أسست لهذا التوجه وأدت إلى هذه النتيجة في السياسة العربية . وأثبتت الدول العربية وما زالت تثبت، بالوسائل كلها وفي المناسبات جميعاً، أنها تلتزم بهذا الاختيار وأنها لم تنفض يدها منه ؛ وتصر على الدخول في كل الامتحانات المفروضة عليها في هذا المجال، ويتجدد امتحانها و تتجدد محنُها بعد كل امتحان. وقد توقفت فعلاً عن كل حشد مادي ومعنوي للقوة المحرِّرة، وعن شحذ إرادة التحرير وعن رفعه شعاراً، بل أعطت ظهرها فعلياً لكل ذلك في معظم الأقطار ؛ لأنها قررت ألا تحل صراعها مع الاستعمار الصهيوني بالقوة، بل أعلنت أنه لا يُحَلُّ أصلاً بالقوة !؟! وقد حولت ذلك الصراع إلى نزاع، وهذا يعني الكثير قولاً وعملاً وتوجهاً فكرياً وتربوياً وثقافياً وسياسياً واستراتيجياً، وأقل ما ينطوي عليه اختلاف المعنى وما يُبنى عليه من تغير الهدف : فالنزاع بين طرفين لا بد من أن يسفر عن اتفاق يحفظ " حق الطرفين "، لأنه يؤول إلى المصالحة على أرضية الاعتراف المتبادل وحق البقاء والاحترام المتبادلين، وتتم تسوية موضوع الخلاف ـ النزاع بينهما بالطرق السلمية ولو بعد عراك ؛ بينما لفظ الصراع في العربية ومدلولاته في الوجدان والتفكير والتدبير، واستخدامه انطلاقاً من معطيات القضية ووقائعها، يعطي معنى خوض معارك مع العدو تؤدي في النهاية إلى حسم الصراع معه بالقوة، وقهره وإلحاق الهزيمة النهائية به أو الانهزام النهائي أمامه ؛ فهو صراع يرتبط بالوجود أو بالحق الذي يمس الكرامة والوجود، وليس مجرد نزاع عادي مما ينشأ بين كاملي الحق والشرعية والوجود المتعايشين أزلياً في نطاق علاقة مشتركة مستقرة في جوار تاريخي ثابت ومستمر . فمثل هذا الوضع ليس هو القائم فعلاً بيننا وبين العدو الصهيوني ؛ فهو قوة طارئة على المنطقة، ومغتصبة بالقوة للأرض، ومتسببة بطرد شعبنا الفلسطيني من وطنه وبحرمانه من إقامة دولته وممارسة سيادته في وطنه بسلام وأمان واستقرار ؟! إنها قوة العدوان والإرهاب التي يكرسها الخضوع لها ولا تزيلها إلا القوة المدافعة عن حق وحرية وعدل، بوعي تام لمعاني ذلك ومتطلباته . ما بيننا والعدو الصهيوني صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود . وقد انزلقت بنا قمة فاس إلى هذا سواء باختيار استراتيجي واع لأهداف أو بمناورات تكتيكية أدت عملياً إلى انحرافات ندفع ثمنها اليوم غالياً جداً !؟.‏

وقد تحول العرب عملياً منذ قمة فاس إلى معنى النزاع، مؤكدين بذلك حقاً "لإسرائيل " في البقاء بوصفها دولة في فلسطين، على حساب الحق العربي في فلسطين وحق شعبها في إقامة دولته المستقلة فوق أرضه المحررة ؛ مكتفين بالحصول على بعض الأرض / ما احتل منها في حرب 1967 /، وعلى بعض الحق / شيء من القدس وشيء من فلسطين /، وبالمطالبة بعودة لبعض أو تعويض على بعض " اللاجئين الفلسطينيين "، وبتحقُّق بعض مظاهر السيادة الفلسطينية التي تقررها المفاوضات بين العدو والإرادة الإدارية الرسمية الفلسطينية المتهافتة، التي حُصرت " دولياً " بالسلطة الوطنية بعد اتفاق أوسلو . وهذا يعني عملياً وتشريعياً القبول بما يوافق عليه بعض الفلسطينيين وليس الفلسطينيون، وما يقبل به المجلس التشريعي " لسلطة الحكم الذاتي كما يسميها العدو " وليس المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثل الشعب الفلسطيني وميثاقه الوطني، كما يعني الالتزام بما تمارسه وترضى به وتوقع عليه سلطةُ عرفات وليس سلطة منظمة التحرير الفلسطينية، تلك التي غُيِّبت عملياً من الوجود الفاعل وغدت في جيب أهل " أوسلو " ؟!‏

وهذا الخيار العربي، المتمثل بحل الصراع بالوسائل السلمية، أدى إلى اختلال توازن القوى بشكل مطلق لمصلحة العدو، وإلى شطب كل تفكير "عربياً" بتحقيق ذلك التوازن، الذي من دونه تصبح كل المفاوضات والاتفاقيات نوعاً من الاستسلام والإذعان ؛ كما أدى إلى إشاعة تراخٍ شامل في كل المجالات المتصلة ببناء القوة وإرادة القتال، وبالوعي التاريخي للقضية المركزية لنضال العرب الحديث، وإلى إضعاف الذاكرة وتجاهل دورها في تجديد الوعي بأبعاد القضية وأسبابها، تلك التي تربَّت عليها الأجيال العربية.‏

وأصبح هناك خوف عربي حتى من أن يستشف العدو شيئاً من التوجه نحو حلول بديلة أو التفكير بها، وكأن العدو يقتنص الضمائر ويراقب السرائر ويجوس في القلوب ليثبت للعرب أنهم ليسو مع خيار السلام، إذا ما وجد لديهم تعلقاً ما بالحق أو بالكرامة أو بالعدل، والعرب يريدون أن يثبتوا له العكس بكل ما لديهم من تاريخ مشرف للشهامة ؟! وهم يفعلون ذلك بتفكير استراتيجي جذري، كأنهم يرون في الصهيوني شريكاً حقيقياً في عملية " سلام "، أو يلمسون تعلقه " بسلام " يعمل له، نابذاً من أجله خيار القوة، وسياسة الاحتلال، والمشروع التوسعي ـ الاستيطاني، وممارسة العنصرية والقهر وسياسة الإبادة ضد أبنائهم وثقافتهم وممتلكاتهم وحقوقهم ومقدساتهم ؟!‏

وهم يصرون على التغاضي عما يفعل، وعلى ألا يروا أنه يثبت عكس ما يثبتون في كل دقيقة من دقائق الليل والنهار، وأنه لم يتوقف لحظة واحدة عن تعزيز قوته الشاملة بكل الوسائل، مستفيداً من الظروف والإمكانيات المتاحة كلها، داخلية وإقليمية ودولية : إنه يمتلك اليوم ويطوِّر أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها : النووية والكيمياوية والبيولوجية ويعزز ترسانته منها، إلى جانب امتلاك وإنتاج أنواع الأسلحة التقليدية المتطورة والمتفوقة ؛ وهو يسابق الزمن في موضوع إنتاج الأسلحة النووية والمواد اللازمة لإنتاجها، ويقوم بإنتاج البلوتونيوم واليورانيوم المخصَّب وبتعشيره في منشآت قرب ديمونا، وينتج مواد أخرى ضرورية لإنتاج الأسلحة النووية بسرعة كبيرة، بعد أن أضطر ـ من باب الشكليات حسب تصريح مسؤوليه ومسؤولي حلفائه وحماته الأميركيين ـ إلى " عدم الاعتراض على حضور مناقشة موضوع ميثاق وقف إنتاج المادتين الانشطاريتين، وهو الميثاق المفضي عملياً إلى الانضمام لهذا النوع من الاتفاقيات الدولية، التي ستجبره مستقبلاً ـ حين ينضم إليها ـ على فتح مفاعل ديمونا أمام فرق التفتيش الدولية . وإلى أن يحين ذلك اليوم، الذي لا يبدو أنه قريب، يكون الكيان الصهيوني قد ضاعف من إنتاجه للأسلحة النووية، ومن قدرته على إنتاج المواد اللازمة لهذا النوع من الإنتاج مستقبلاً، وضاعف مخزونه منها، الذي لن يخضع للرقابة والتفتيش لأنه تم قبل التوقيع على الاتفاق، والعدو الذي يسابق الزمن في هذا المجال كما أسلفنا يؤكد توجهاً مفاده : " أن سياسة إسرائيل النووية تهدف إلى الحصول على أكبر قوة ممكنة من الردع دون التعرض لضغوط دولية لنزعه "، ويقوم بما يحقق خططه الضامنة لاستمرار تفوّقه على العرب والمسلمين مجتمعين وعلى من قد يناصرهم في هذا المجال .‏

أما نحن العرب الملتزمين بنوايا السلام، والمجبرين على تقديم صكوك البراءة من كل عزم على امتلاك أي سلاح من أي نوع يمكن أن ندافع به عن أنفسنا ضد أي عدو محتمل ـ وليس بالضرورة الكيان الصهيوني ـ والملاحقين بالتهم والحصار حتى لا نفكر تفكيراً عملياً أو نحوِّل التفكير العلمي النظري إلى تطبيقات عملية تمكننا من امتلاك العلم والتَّقَانَة ؛ فلم نمتلك شيئاً من القوة في هذه المجالات، ولم نفكر بامتلاكها كهدف استراتيجي بعيد المدى، بل مازلنا نسعى بكل الوسائل لنثبت لعدونا المحتل لأرضنا أن تشريح نوايانا وسرائرنا وصفحات قلوبنا وتفكيرنا العلمي والعسكري والسياسي سيثبت أنها خالية تماماً من كل شيء يمت إلى ذلك بصلة، وفي ذلك برهان على وإثبات لحقيقة نوايانا المتجهة نحو " السلام " مع المحتل بوصفه اختياراً استراتيجياً نهائياً لا رجعة عنه، مع التغاضي التام عن توجهه المستمر نحو التوسع والعدوان وامتلاك الأسلحة التي تمكنه من الهيمنة على المنطقة، وإقامته للتحالفات التي تضمن له إعادة تشكيلها جيوسياسياً والتحكم بمستقبلها إن استطاع ذلك ؟!؟.‏

وفي المجال السياسي المتصل بموضوع الصراع، لم يعد يجمع العرب جامع ذو ثقل عملي مؤثر على تضامن فعال وتنسيق للمواقف، بَلْه اتخاذ القرارات وإعمال الإرادة السياسية في موضوع مواجهة حامية حاسمة، تضع حداً لخطط العدو في الاستيطان وتهويد القدس والتخطيط لتدمير المسجد الأقصى وبناء "الهيكل الثالث" على أنقاضه، والاستمرار بممارسة " إرهاب الدولة " ضد المواطنين العرب في الأراضي المحتلة، لاجتثاثهم نهائياً من أراضيهم أو إبادة إرادتهم وهويتهم العربيتين، وتكثيف الاستيطان -الاستعماري في أراضيهم برعاية ودعم أميركيين لا حدود لهما.‏

لقد أهلك الأنظمةَ العربية عاملُ انعدام الثقة فيما بينها، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية واتفاقي " أوسلو " ووادي عربة، وأصبح عقد قمة عربية من أي نوع شبه مستحيل، إلا إذا كانت لإنقاذ اتفاق " أوسلو " البائس، وإعادة تسليح من يستسلمون لنتنياهو بموافقة من الأنظمة العربية على خطواتهم التراجعية واتفاقياتهم الاستسلامية ؟!!‏

لقد حصلت السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق " أوسلو "، على 60% من أراضي غزة ؛ ونحن نعرف أن غزة غارقة في الصحراء والبحر على نحو ما، فأراضيها ليست زراعية ولا تملك أساطيل للصيد البحري، وقد حرمت حتى الآن من المرفأ والمطار والطريق الآمنة التي تربطها بالضفة الغربية، وهي من وعود أو استحقاقات " أوسلو " وأخواتها ؛ وحين تحصل على ذلك حسب التفسير المعروض " إسرائيلياً " لاتفاق " أوسلو "، فإن كلاً من المرفأ والمطار والطريق الآمنة سوف تبقى تحت السيطرة الأمنية التامة " لإسرائيل " ؟! لقد أضفنا إذن مرفأً ومطاراً وطرقاً آمنة للكيان الصهيوني فوق ما لديه من ذلك، ووضعنا كل حركتنا تحت رقابته الشاملة ؟! وبهذا المعنى ألا تتحول " أوسلو " إلى قفص توضع فيه قوة التحرير الفلسطينية تحت الرقابة الصهيونية، بعد أن كانت بعيدة عن تلك الرقابة نسبياً قبل الاتفاق المشؤوم ؟!.‏

وحصلت السلطة أيضاً على 24% فقط من أراضي الضفة الغربية، تديرها إدارة مدنية وقد تحصل على 1 % بعد تنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب، وليس لها على تلك الأرض سيادة أو سلطة تامة من أي نوع ؛ وتستطيع القوات الصهيونية الدخول إلى أي مكان تشاء في أي وقت تشاء، وأن تستخدم الشرطة الفلسطينية دليلاً وأدوات لحماية أمن الاحتلال، ولتنفيذ عمليات أمنية ضد الفلسطينيين الرافضين " لأوسلو " جزئياً أو كلياً .‏

وما حصلت عليه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية عملياً بموجب " أوسلو " هو : مدن وقرى معزولة عن بعضها بعضاً، تشرف على بعضها مستعمرات يهودية وتقطعها عن بعضها بعضاً معسكرات وطرق ومستعمرات لقوة الاحتلال ؛ فهي محميات أو " غيتوات ـ معازل " عربية عملياً، وتقع تحت رحمة العدو في أي وقت.‏

أما موضوع الأمن والسيادة والحدود فهو شأن صهيوني تماماً حسب الاتفاق المشؤوم، حيث يعلن العدو دائماً أن حدوده هي نهر الأردن من الشرق والحدود الدولية التي تفصل بين مصر وقطاع غزة عملياً من الجنوب .‏

والكيان الصهيوني لا يكتفي بحصر السلطة الفلسطينية في حيِّزين : جغرافي وإداري بائسين، بل يطالبها باحترام، ويشهر بها لعدم احترام، المطلب الأول والأهم الذي اشترطه عليها وألزمها به بموجب اتفاق " أوسلو " وسلح شرطتها من أجل تحقيقه، وهو تصفية ما أسماه " بالإرهاب الفلسطيني " وتدمير البنية التحتية لكل من الجهاد الإسلامي وحماس وبقية الفصائل التي تسلك طريق المقاومة وتنادي بسلوكه ؛ أي أن الكيان الصهيوني صمم " أوسلو " والسلطة المنبثقة عنها لتقوم بإشعال حرب أهلية فلسطينية، وإلا فهي تخل بالتزاماتها ولا تنفذ ما تم الاتفاق عليه ؟! وهو يدعو عرفات إلى الاستمرار في ممارسة ملاحقة ساخنة، دائمة ومكشوفة، ضد الشعب الفلسطيني الذي يرفض " إسرائيل "، ليسلمه قطعة من أرض أو وثيقة حسن سلوك صهيونية وليوصي بإعطائه حفنة من الدولارات ؟! ومن المدهش حقاً أن سلطة الحكم الذاتي وافقت على تسمية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال إرهاباً، وتقوم بالتنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني لإبطال عمليات المقاومة وملاحقة عناصرها، كما تعمل على إضعاف بنية المقاومة وتقوم بقصقصة أجنحتها من آن لآخر، حسب برنامج دوري مدروس، وتلهث خلف الرضى الصهيوني في كل مجال ؟!!‏

والكيان الصهيوني يجدد الحصار على السلطة والمقاومة وعلى المدن والقرى من آن لآخر، ويتحكم بطاقة العمل العربية وبرغيف أبناء الضفة والقطاع وبمستقبلهم وأحلامهم، أولئك الذين يحققون مهزلة العصر المبكية رغم أنوفهم، إذ يدعمون إنتاج العدو ودخله القومي بعملهم، ويستهلكون سلعه، ويبنون له المستوطنات على أرضهم وبأيديهم، وينفذون مخطط التوسع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني الذي " يناضلون كما ناضل آباؤهم وأبناء أمتهم للتخلص منه والقضاء عليه "، فهل بعد هذا عبثٌ ولا معقول، وهل يعيش سيزيف التاريخي أو هل عاش أصلاً خارج هذا الإطار الذي يرتسم أمامنا بأساه وبؤسه القبيحين ؟!! إن " أوسلو " لم تحررهم، ولم تحرر لقمتهم، ولم تهيئ لهم جسراً يربطهم بأمتهم أو حتى ببعضهم بعضاً في جو من الحرية والأمان والاطمئنان، بل عزلتهم نهائياً عن التواصل مع الأمة كما عزلت نفسها عن كل صلة وتنسيق جاد مع الأطراف المعنية " بعملية السلام "، ودخلت مع السكان في قفص يقفله الاحتلال ويحرسه جيداً ويستنزف من هم فيه دائماً ويعرضه ومن فيه على العالم موحياً بتحقق سلام يستحق عليه المكافأة . والوضع الفلسطيني، أو بالأحرى وضع العمال الفلسطينيين في هذا السياق يذكرني بصورة رسمها شكسبير في إحدى مسرحياته لحصان أصيل طُعِن في بطنه والتفَّت أمعاؤه على حوافره فكلما حرك أطرافه أكثر مزق أمعاءه أكثر، فازداد ألماً واقتراباً من نهايته ؟!‏

في اتفاق فرعي لأوسلو – وما أكثر اتفاقياتها الفرعية التي لا أظن أنها يمكن أن تنتهي – سُمِّيَ اتفاق الخليل، يتحكم أربعمئة صهيوني عملياً بحياة مئة وعشرين ألف عربي فلسطيني وبمستقبلهم ؛ ويضعون الشرطة الفلسطينية، التي لم توضع أصلاً للدفاع عن نفسها ولا عن أهل الخليل، إذ سلح كل شرطيين ببندقية " ؟!! "، يضعونها في خدمة أمن المستعمرين "المستوطنين " ؛ وهم يسيطرون عملياً، مع قوات صهيونية تحميهم، على الحرم الإبراهيمي، ويجعلون هذه المدينة التاريخية العريقة تنهض من حصار لتدخل في حصار يُفرض على أبنائها حتى لا يبقى لهم أمل أو عمل أو حل أو إرادة أو انتماء، فأي شيء يعني اتفاق الخليل بعد هذا، وماذا سيكون بعد التوسع الاستعماري الذي تقرر في تل الرميدة وما يأتي من توسع استعماري صهيوني ؟! وهل هو اتفاق منسجم مع نصوص اتفاق " أوسلو " البائس أصلاً، وهل الخليل بهذا الوضع مدينة فلسطينية محررة ؟!‏

لقد خلق اتفاق " أوسلو " مشكلة على الصعيد الداخلي في المدن كلها، وأكبر مشاكله وضحاياه ستكون مدينة القدس، التي أرجئ شأنها ـ وهو الأعظم ـ إلى المرحلة النهائية من مراحل الاتفاق ؛ وحين يتم الوصول إلى المرحلة النهائية يكون موضوع القدس قد انتهى عملياً لمصلحة الكيان الصهيوني بخلق واقع جديد يملي حضوره ووقائعه على الجميع ويفاقم المشكلات، لا سيما في ظل الإعلان المتجدد من قبل العدو الصهيوني وحليفه الأميركي بأن القدس " عاصمة موحدة لإسرائيل وستبقى كذلك إلى الأبد " !؟ وفي ظل الدفع السياسي والدبلوماسي اللذين تقدمهما الأوساط السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما في مجلسي الكونغرس ـ تقرباً وتزلفاً لإسرائيل وللحركة الصهيونية، وبضغط مستمر من اللوبي الصهيوني الأميركي وقلبه " إيباك " ـ بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وممارسة الضغط على الدول الأخرى لنقل سفاراتها إليها.‏

لقد تقرر عملياً وضع الأماكن المقدسة في القدس منذ توقيع إعلان واشنطن بين الملك حسين وإسحق رابين وتوقيع اتفاقية وادي عربة، التي أنتجت المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية، ومن يَعُدْ إلى الخطابات والرسائل المتبادلة والإشادات بالنسب الهاشمي للملك وبالدور التاريخي الذي له وللملك عبد الله من قبله، يدرك أن مساحة بحجم الفاتيكان أو أكبر قليلاً في القدس، تضم الأماكن المقدسة، ستكون تحت تصرفه، مراعاة لكل التاريخ السابق من التعاون والتعامل، والعلاقات الحميمة، والدور المميَّز، واللاَّفتات " الطيبة " : التي منها زيارة الملك لغولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني يوم 26 أيلول 1973 ـ أي قبل حرب تشرين، أوكتوبر بعشرة أيام فقط ـ ليخبرها بنية المصريين والسوريين شن هجوم على " العزيزة إسرائيل " ؟!‏

أما القدس العاصمة لسلطة الحكم الذاتي ـ أو الدولة الفلسطينية المقبلة ـ فقد تقرر مصيرها هي الأخرى في اتفاقيات تمهيدية ثنائية شبه سرية تمت بين مسؤولين " إسرائيليين " وآخرين من رموز اتفاق أوسلو فلسطينياً " أبو مازن "، وفي منشآت " أمر واقع وحقائق على الأرض " تم إنجازها أو البدء بذلك الإنجاز ؛ ويجري خلق الأمر الواقع الذي يملي ذلك الاتفاق بوصفه حقيقة على الأرض ويكرسه جغرافياً وسياسياً. وهو ببساطة ينطوي على كذبة كبرى يقوم بابتلاعها المفاوض الفلسطيني ويسوقها : فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً ؛ الغرض منها ستر العورة وحفظ " ماء الوجه " بالنسبة لأهل اتفاق " أوسلو " في الجانب الفلسطيني .‏

وقد بدأ تنفيذ ذلك فعلاً في خطط متكاملة منها :‏

ـ إقرار بناء مستعمرتي " جبل أبو غنيم " و " باب العمود " في القدس، واستملاك مواقع أخرى باسم مواقع آثارية، والقيام بتهويدها .‏

ـ استمرار مسلسل تهويد القدس بطرد سكانها الأصليين العرب، والاستيلاء على بيوتهم، وحرمانهم من أن يكونوا في تعداد سكان المدينة بوسائل مختلفة منها موضوع البطاقة، وشراء الأرض، ومنع تراخيص البناء، وسوى ذلك من أساليب .‏

ـ إقرار المخطط التنظيمي الجديد للمدينة الذي يضم إليها " مستعمرات يهودية " مقامة أصلاً في أراضي الضفة المحتلة عام 1967 لحماية تلك المستوطنات وجعلها سواراً يهودياً حول القدس، وزيادة عدد سكانها اليهود ؛ وفي مرحلة قادمة من مراحل تنفيذ المخطط سيضاف إليها قرى عربية أخرى منها قرية " أبوديس " التي اتفق على أن تكون هي العاصمة المستقبلية للسلطة الوطنية الفلسطينية، وستصبح جزءاً من القدس الموسعة في إطارها البلدي الجديد، حيث تبقى موحدة !؟ وبذلك يتحقق ادعاء لسلطة اتفاق " أوسلو " بأنها اتخذت من " القدس " عاصمة لها، وهي قدس بلدية الصهيوني " ايهود أولمرت "، ويبقى القرار الصهيوني المعلن بصفاقة متناهية وإصرار بغيض نافذاً : " القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل" !؟.‏
ما من شك في أن هذا الوضع سيخلق مشاكل مضافة إلى مشاكل اتفاق " أوسلو" وهو أصلاً بؤرة مشكلات، وسيفجر خلافات عربية ـ عربية ذات أرصدة دموية بالغة السوء في الذاكرة والوجدان العربيين ؛ ولكنه يلبي الأغراض الاستراتيجية للكيان الصهيوني وحليفه الأميركي ومن يتعاونون معهما استراتيجياً في المنطقة : خلافات مستمرة بين العرب، وصراعات دموية متجددة إن أمكن فيما بينهم، تجعلهم إلى مزيد من الضعف والفرقة والتآكل والغياب، وتقيم بينهم وبين مستقبلهم ورصيدهم البشري في العالم الإسلامي سداً منيعاً ؟!‏

ربما كانت أهم جبهات المواجهة التي فتحها اتفاق " أوسلو " هي الجبهة، وهي جبهة تم التنبه لأهميتها ولضرورة زج قوى مناصرة لمسار الاستسلام وللصهيونية والإمبريالية الأميركية فيها، بعد استقراء تجربة التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد حتى اتفاق " أوسلو " ؛ حيث تبيَّن لأولي الشأن أنه ما لم تحتضن الثقافةُ ما يروجون له من " سلام " فلن يستقر في الأفهام والضمائر والأوساط الشعبية، وسيبقى ما يرسمون حبراً على ورق واتفاقيات فوقية رسمية بيروقراطية، تقتلعها رياح ثورات الشعوب ؛ وأنه لن يتغير واقع الحال في المنطقة من أمة عربية ترفض " إسرائيل " وترفض تطبيع العلاقات معها إلى أمة تنسى فلسطين وتجد من الطبيعي أن تتعامل مع " إسرائيل "، وأن ترى في الاعتراف بوجودها حلاً منطقياً لما يسمى بأزمة الشرق الأوسط !؟؟.‏

لقد تم التخطيط لوضع الثقافي والسياسي العربيين في سلة الأميركي ـ الصهيوني، ووضعت خطط لتسويق " أوسلو" ثقافياً، أي تسويق " إسرائيل " وسلام الاستسلام والاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها . وتم توظيف ثقافة ومثقفين لهذه الغاية، ورصدت أموال للتأسيس لما سمي " ثقافة السلام بدلاً من ثقافة الحرب "، وعقدت من أجل ترويج ذلك مؤتمرات وندوات ولقاءات من أبرزها : غرناطة وكوبنهاغن، وأقيمت في إطار ذلك تجمعات وجمعيات وأندية و" صالونات " ثقافية تعمل على ترسيخ هذا التوجه وتفعيل أدائه، مثل : " جماعة القاهرة من أجل السلام ـ جمعية أبناء إبراهيم ـ بذور السلام ـ بناؤون من أجل السلام ـ صحفيون من أجل السلام ـ المرأة في خدمة السلام ..إلخ " كما أقيمت محطات فضائية لبث هذا النوع من الفكر، ودور نشر وصحف لترويج كتب وأفكار وآراء وكتَّاب وباحثين يخدمون هذا التوجه، ومراكز أبحاث لتقديم محتويات أحشاء المجتمع العربي للمخططين الصهاينة والغربيين العاملين على خدمة مشروع إسرائيل التوسعي وسلامها . وكل هذا الجهد يموَّل من الغرب وتقف خلفه شبكات تغذية صهيونية وغربية متكاملة، وأجهزة استخباراتية ذات خبرة عريقة في هذه المجالات .‏

ويتم التركيز في المقابل على تشويه صورة من يقاوم هذا الاتجاه، ويتم تقويمه وتقديمه على أنه اتجاه معادٍ للسلام وقوة ظلامية سلفية، وأصولية قومية أو إسلامية إرهابية، وقوى خارج دائرة الرؤية والعصر والتاريخ، إلى آخر ما في جعبة أولئك من تهم لتشويه صورة الأشخاص والتيارات وأفكارها وإضعاف تأثيرها .‏

وفي هذا المنحى أيضاً يتم التركيز على تشويه أدب المقاومة والنيل من كل الإنتاج الذي يحيي حقائق الصراع العربي الصهيوني ويركز على ثوابته ويحافظ على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين، وعلى توجه ثقافي عام وتربوي خاص : يضع فلسطين والتضحية من أجلها وقضيتها المركزية من نضال العرب الحديث على رأس الخطط التربوية والاهتمامات الثقافية النظيفة الجادة والمسؤولة .‏

إن اتفاق أوسلو في نهاية المطاف جزء من صيغة سياسية ترمي إلى فرض الاستسلام على العرب، وإنهاء أهم مراحل زرع المشروع الصهيوني في وطنهم، وجعله يتمتع بكل مقومات القوة والبقاء والشرعية والهيمنة ؛ كما يرمي إلى أن يكون ذلك الكيان صاحب دور وتأثير وتقرير في مستقبل المنطقة، وفي إعادة تكوين خريطتها الجيوسياسية . ولأن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون تدمير الهوية والإرادة المقابلتين وكل صور المقاومة له من العرب، فإن العمل من أجل تحقيق ذلك لا بد أن يتكامل ويشمل السياسة والثقافة والاقتصاد ومقومات القوة المادية والروحية للعرب والمسلمين على حد سواء، نظراً لالتقاء الجميع حول موضوع القدس، الحلقة المركزية في هذه السلسلة الذهبية من سلاسل الأحداث العالمية .‏

إن اتفاق أوسلو، بعد وضعه في التداول لمدة خمس سنوات، ليس عمله رديئة ينبغي سحبها من السوق فقط، بل كارثة على القضية الفلسطينية والأمة العربي، ولم تقدم سوى روح الهزيمة والتآمر على الحق والمقاومة والمشروع القومي المنشود، وهي في أحسن حالات تنفيد نصوصها من المصائب التي تجعل أربعة ملايين فلسطيني على الأقل يفقدون وطنهم إلى الأبد، إدا ماأُخد بهدا النوع من " سلام الاستسلام".‏

وإن ما قدمه أهل " أوسلو " ووادي عربة من العرب للعدو الصهيوني لا يقدر بثمن، وإن التوجه الصهيوني ـ الأميركي يريد أن يعمم أنموذج " أوسلو " وروحه الاستسلامي الانهزامي الشرير على العرب، الذين لم يتوصلوا بعد إلى اتفاق مع الكيان الصهيوني !؟ فهل يتم ذلك ؟؟ هل ينجح أنموذج أوسلو ويعمم؟؟ هل ينسى العرب قضيتهم ويقبلون " أبو ديس " بديلاً للقدس ؟! هل ينتهي المدان القومي والإسلامي المرتبطان نسبياً بالقضية الفلسطينية وما يدور حولها من صراع، ويودَع المؤمنون بهما قفص الاتهام بصفة " إرهابيين، " ثم يلقى بهم خارج العصر والتاريخ ؟! هل يبقى العالم على هذه الصيغة من البؤس واليأس في ظل القوة الأميركية المتغطرسة العمياء المفلسة روحياً وأخلاقياً ؟! هل ينتهي تاريخ القضية العربية على هذا النحو البائس ؟! كل هذه الأسئلة تتفاعل في النفس ويطرحها العقل ؛ ولكن المنطق يقول إن التاريخ لا ينتهي، وأنه يصنعه القادرون على صنعه وليس أولئك الذين يكتفون بقراءته، وإن الأمم العريقة والحضارات الراسخة، القائمة على مبدئية علمية وخلقية متينة لا يمكن أن تنتهي وتندثر . والتاريخ يفيدنا أن العروبة والإسلام والحق والحرية والوطن والكرامة ليست من المعطيات العابرة في التاريخ .‏


الثلاثاء، 08 أيلول، 1998‏

السبت، 25 مايو 2013

معركة وجود، وداعاً للهراء


كم نحن جيدون في الكلام والكتابة؟ كم نفتخر نحن بأقلامنا وأصواتنا الخافتة التي لا يسمعها أحد، حتى نحن لا نسمع أصوات أنفسنا المريضة، "شلال الشكوى الذي يتدفق ليل نهار، في أنسجة النفوس وفي البُنى الاجتماعية، وتفجره المعاناة وتُمِدُّه بينابيع لا تنفد ويستمر في حركة دائرية اجترارية سقيمة؛ ذلك الشلال ينخر العزم والقيم والإرادة، ويُدخل المرء والمجتمع في دوامة كئيبة ومقيتة، لن تسفر إلا عن مزيد من الأسى والبؤس والتآكل واليأس"*.

ومن خلال المواجهة والاصرار -بلا خوف- نسعى لأن نحقق كيان حقيقي، كيان نستطيع من خلاله أن نقول شيئاً مرادفين معه العمل المناسب، يمكننا بدايةً أن يكون مجرد عمل حتى وإن لم مناسبة درجة أولى، "ولأننا في اللحظة الحرجة من صراعنا في الوجود من أجل أن يكون لنا حضور فاعل ومحترم وقادر.... لأننا نواجه، في هذا الزمن العربي الرديء الصعب، تحديات تصل إلى تصفية مذلة لحقوقنا وقضايانا، وتهديد لهويتنا الثقافية وعقيدتنا الدينية وحضورنا الحيوي كله؛ فلا بد من أن نختار بين أن نواجه ما يرتبه ذلك كله علينا، أو أن نركن ببساطة ووضوح للتبعية والامحاء ونستسلم لمن يريد أن يفرض ذلك علينا، ونستمر في حالة "القطعانيَّة" التي نعيشها محرومين من حقوق كثيرة، ومميزات تجعل الإنسان مكرماً في الحياة ومتمايزاً عن دابة الأرض والسائمة المنتشرة فيها".

لن تكون هناك مساومة أبداً في المشاركة باتخاذ القرار، الديموقراطية وإن كانت تعني محلياً المشاركة في صنع القرار، لكن تعميمها يريدون أن يجعلوا القرار في يد الدول العظمى فقط، وباقي الدول مجرد دمى أو خشب شطرنج يحرّكهم الأكبر اقتصاداً ونفوذاً وعنجهيةً، وحتى نخطو خطوة "إلى ذلك لا بد من تعزيز مناخ ثقافي خصب سليم القيم والمقومات، يكون عامراً بالأمن من جوع وخوف وقادراً على إخصاب طاقة العطاء والإبداع. ولن يكون ذلك كذلك إلا بالسير، ثقافياً وسياسياً، على طريق أحدد مسارها بالقول: "إنها مسيرة المثقفين العرب من الشك إلى الثقة".‏


* ما بين " " هو اقتباس من كتاب: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد، د.علي عقلة عرسان، اتحاد الكتاب العرب 1998

الجمعة، 10 مايو 2013

العولمة، إلهاء العقول

 
مرةً قال لي أحدهم ما رأيك بالعولمة؟ قلت له: سؤالك شامل وعام! والعولمة متشعبة، فحدد لأحدد إجابتي. قال لي: العولمة بجانبها السياسي، قلت له: أيضاً حدد أكثر، فالجانب السياسي للعولمة متداخلٌ مع الجانب الاجتماعي. قال لي: كيف؟ قلت له: أن هناك أحد الفلاسفة يقول: أن الغرب -أنصار العولمة- وأطلق عليهم مسمى (الليبراليون الجدد) قد تصدّوا لحملة العولمة تحت مصطلح جديد مأخوذ من علم النفس الاجتماعي المعاصر وهو [ المجموعة المرجعية ]، وهذا المصطلح يعني الأدنى مستوى -معيشي، مجتمعي، سياسي، ثقافي- يتأثر بالأعلى مستوى، وطرح بعض الفلاسفة مثال بسيط، وهو للتقريب تأثر مجموعة شباب القرى بمجموعة شباب المدن، وهذه كثير ما نجدها في البلدان العربية خصوصاً مع ازدهار وتطور المدن ومواكبتها للتقدم والتحسن الوظيفي وما إلى ذلك من مظاهر تجذبهم.

قال لي: كيف يؤثر ذلك؟ قلت له: العولمة أساسها جعل الكون واحد، جعلهم كما يسمونه (قرية واحدة) وجعل الكون كالقرية أي انتشارالأخبار والأفكار وتداولها أسرع بكثير، فعندما تقول القرية الفلانية تعلم أنها صغيرة الحجم والبيوت متقاربة، هكذا هم يريدون العالم، حدوده متقاربة اليوم وغذاً تتلاشى الحدود عملياً حتى لو تبقى مجرد حدود نظرية موضوعة على الورق وبين السطور، وتأثيرها حتماً من جانب تغيير تفكير المجتمع، فالاعلام وهو أداة لا يمكن تخيل مدى قدرتها على اختراق أكبر عقل بشري! يكفيك أنه منذ اعلان بعض الدول العربية عن منع تداول فيلم ( قناع الثورة ) حتى قامت بعض القنوات بعرضه مرتين! وتداول الناس صوراً عنه وقاموا باشغال المجتمع بتفاهة غربية وصناعة غير معتادة -بغض النظر صحيحة أم خاطئة-.

قال لي: لماذا تنظر إلى العولمة من الناحية السلبية؟ لماذا لا نحاول أن نصنع نفسنا من خلالها؟ لماذا لا نبث أفكارنا بين طيّاتها؟ قلت له: لأننا بكل بساطة، لا نملك أسس ما قامت عليه العولمة، العولمة انتهجت طريقاً اقتصادياً ليس لأنها اقتصادية المبدأ والانطلاق والعمل، بل لأنها تحتاج إلى الاقتصاد! تحتاج لأن يكون بيد صانعيها ومحرّكيها رأس مال يساعدها على بناء أهدافها ووضع الخطط اللازمة!.

في الأحداث التي حصلت في 11 سبتمبر من يستطيع أن يخرج ويقول أن من عمل العمل الشنيع ليس فلان وفلان! جميع الاعلاميون قالوا فلان وفلان، أول من قال فلان وفلان هم أصحاب القرار! فقال دكتور القانون الدولي يوماً: "الاعلام هو أداة ووسيلة من خلالها تستطيع أن تدمر بلداً وتستطيع أن تبني حضارة!"، وهذا ما نشهده اليوم، وسائل الاعلام في أيدي الدول العظمى، وهذه الدول العظمى نفسها تمنع أي وسيلة اعلامية من اختراق حدود اقليمها، فلا يمكن أن تكون هناك وسيلة تؤثر على كيانها ونظامها وأفراد شعبها، عكسنا نحن الذين صرنا حقل تجاربهم فجرّبوا فينا العولمة وصنعوا القنوات الاعلامية ومزّقوا الصف ومن خلال نفسها الوسائل يصنعون (مصطلحات) رنّانة، طبعاً بعد دراسات عميقة ومتجذّرة في تكوين الناس، وهذه الدراسات تختص بكل مجتمع بمفرده، ففي معظم الاحصائيات تقول أن أمريكا تصرف ميزانية قدرها مليارات سنوية على الدراسات والبحوث العلمية، ومنها وسائل الاعلام، إذاً ببساطة وسائل الاعلام تسبب أحياناً الدمار وهذه كلها أخي العزيز تحت عنوان (العولمة).

قال لي: برأيك العولمة شيء سلبي؟ قلت له: ايجابي بنسبة قليلة، وهذه النسبة القليلة عندما نستخدم هذا المصطلح نحن بالشكل الصحيح، وهذا غير ممكن والسبب إننا لا نملك القرار الكامل، وهناك من يتحكم ويحرّك قراراتنا بشكلٍ أو بآخر على حسب المصلحة فنحن دول ضعيفة اقتصادياً لا نملك أية وسيلة تجعلنا ننهض ونكون ذا ثقل في المنطقة أو الساحة السياسية والاقتصادية، لا تستطيع أن تحرك اعلاماً جيداً ومنصفاً في ظل التأثيرات الداخلية والخارجية، التأثيرات التي قد تصنع وتصطنع من المغرضين والحاقدين، هذه مسائل معقدة صنعها الغرب -الليبراليون الجدد-.

قال لي: كلامك جيد، كيف نوقفها؟ قلت له: لنستحضر درس الأستاذ العلامة الشيخ سليمان المدني رحمه الله في الاشاعة، فعندما نطبق كلامه في ذاك الجانب، فربما نحد من سيطرة العولمة على الاعلام وبث الاخبار، والسياسة اليوم تعتمد اعتماداً كبيرة على الاعلام، لذلك لنتعامل مع كل ما يخالف الشريعة الاسلامية بأنه اشاعة يراد بها هدم الشريعة المحمدية، فقال العلامة المدني قدس سره الشريف: " الاشاعة واستغلالها في عمليتي الإلهاء والتوجيه. تعمد الفئات السياسية سواء كانت دولاً أو أحزاباً إلى القيام بعملية إلهاء أو القيام بعملية توجيه، وعندئذ لابد أن تقوم قبل تلك الأحداث أو بعدها بعمل ما، قد يكون ذلك العمل حدثاً اقتصادياً، وقد يكون خبراً يستحوذ على أذهان الناس، المهم أنه لابد أن يحصل شيء يوجه أفكار الناس أو يلهيهم، وذلك حسب العمل أو الشيء الذي يراد إحداثه." المصدر: دعوة الحق، المحاضرة: الاشاعة 1، صفحة: 174.

هامش: لا زالت هناك (مجموعة مرجعية) لتعرف وتتيقن من وجودها تابع بعد كل خطاب للدول العظمى أو اجتماع عدد الدراسات ومدى الاهتمام بالكلمات التي تطرح.

هامش أصغر: (المجموعة المرجعية) بيدها العالم، ما دام الناس مبتعدين عن رسالة السماء.

الخميس، 4 أبريل 2013

حلف اليمين، بين التحديد والتقدير

حلف اليمين
بين تحديد المشرع وتقدير القاضي
 
1- من الاشكالات التي تشوب عبارة اليمين الحلف بالله العظيم، والاشكالات العديدة أحدها أن حالف اليمين لا يخاف بأن يحلف باسم الله، والبعض لا يؤمن بهذه العبارة، مما حذا بالفقهاء سواء القانونيين أو الشرعيين بوضع مبادئ لعبارة الحلف، فانقسموا لرأيين:
 
2- الرأي الأول :
ذكروا شرطين أساسيين لعبارة حلف اليمين، الشرط الأول : أن تتضمّن الصيغة ( القسم )، مثاله/ أقسمُ، أقسمتُ، قسماً أو حلفتُ أو آليتُ. الشرط الثاني : أن يكون المحلوف به هو "الله" عز وجلّ وليس غيره من المقدسات والمخلوقات، مثاله/ أُقسمُ بالله العظيم.
·   وبنظرنا أن هذا فيه اشكال عندما يكون المراد منه حلف اليمين لا يؤمن بوجود الله عز وجل، فسوف يكون حلفانه خالٍ من الاعتقاد وبعدها يوجد احتمالات بأنه يكذب، وحلف اليمين للاقناع، فأي اقناعٍ سيكون بلا اعتقاد ويقين.
ومن المشرّعين الذين أخذوا حذو هذا الرأي المشرّع الأردني، فقد نص على : "يحلف الشاهد قبل الإدلاء بشهادته اليمين التالية:-(اقسم بالله العظيم ان أقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق)".[1]
 
3- الرأي الثاني :
لم يذكروا شكليّة معيّنة يلتزم بها المراد منه الحلف، وهذا ما أخذت به معظم التشريعات العربية والدولية، منها المشرّع البحريني، فقد نصّ : " على الشاهد أن يحلف يميناً بأن يقول الحق، كل الحق، ولاشيء غير الحق وإلا كانت شهادته باطلة. ويكون الحلف حسب الأوضاع الخاصة بديانته إن طلب ذلك"[2].
 
فمن خلال النص، نرى أن المشرّع لم يحدد عبارة لحلف اليمين كما حدّدها المشرّع الأردني في قانونه، وهذا خير ما فعله المشرع البحريني، نظراً لتطور وتقدم الدول في مجال السياحة، مما يؤدي إلى ورود وقائع قانونية يجبر فيها من يقع عليه عبء الاثبات على حلف اليمين إن لم يكن بيده سند رسمي أو بينة قانونية غير الحلف، فدرءاً للاشكالات التي تشوب القاعدة القانونية في حال حلف اليمين، ترك المشرع البحريني في تحديد عبارة القسم على القاضي مع الاعتبار بديانة من يقع عليه عبء الاثبات.
 
4- وهذا ما ذهب إليه المشرّع السوري، إذ نصّ على : "ويجب أن يؤدي الشاهد قبل الادلاء بالشهادة يميناً بأن يقول الحق".[3]
 
5- ويمكننا ايجاز شروط أنصار الرأي الثاني :
أ‌.       القسم.
ب‌.   قول الحق، ويترتب على عدم قول الحق البطلان.
جـ. يكون الحلف حسب الأوضاع الخاصة لديانة المراد منه اليمين إن طلب ذلك.
 
6- يمكن لأحدٍ أن يثير اشكالاً يتعلق بتعارض أحياناً عبارة حلف اليمين مع النظام العام للدول لا سيما الاسلامية، وجوابنا أنّه لا يوجد هناك ما يمكن تسميته مخالف للنظام العام، فحتى لو جئنا إلى تفصيل اللغة الإنجليزية والفرنسية والهندية والفارسية، سنجد هناك تعدد في استخدام العبارات، بين "الله" و "الإله" و "المعبود" و "الرب"، فتحديدها في نص قانوني هو ما سيثير الاشكال، لذا نرى حسناً ما فعله المشرّع بأنه ترك عبارة حلف اليمين تعود إلى تقدير القاضي أو على ديانة من يقع عليه عبء الاثبات.
 
7- والجدير بالذكر أن المشرّع الفرنسي اقتصر فقط على عبارة " أقسم بالله " باللغة الفرنسية " Je jure devant Dieu "[4]، وجرت العادة على بعض الممارسات في القضاء لا تمت للقواعد القانونية بصلة، كرفع اليد اليمنى أثناء الحلف أقرب ما تكون لأعراف قضائية، والبعض يقول إنها تشكّل خرقاً لنص القانون، والبعض يرى أن النص لم يحصر عبارة الحلف بعبارة محددة أو بشكلية معينة فيرجع تقديرها لقاضي المحكمة[5].
 
8-  المراجع:
أ‌.       قانون الاثبات البحريني، الصادر بمرسوم قانون (14) لسنة 2006.
ب‌.  قانون البينات الأردني، الصادر سنة 1952.
ت‌.  قانون البينات السوري، الصادر سنة 1947.
ث‌.  Code de procédure civile (septembre 1974)
ج‌.  باباس نورالدين، مذكرة التخرج: اليمين كطريق الإثبات طبقاً لنصوص القانون المدني وقانون الإجراءات، صفحة 52، 2004، منشور على الانترنت، وزارة العدل/ المعهد الوطني للقضاء.
 
الحمد لله ربّ العالمين


[1] المادة (81) فقرة (1) من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردني.
[2] المادة (84) من قانون الإثبات البحريني.
[3] المادة (77) الفقرة (3) من قانون البينات السوري.
[4] Article (85) for Code de procédure civile (septembre 1974).
[5] باباس نورالدين، مذكرة التخرج: اليمين كطريق الإثبات طبقاً لنصوص القانون المدني وقانون الإجراءات، صفحة 52، 2004، منشور على الانترنت، وزارة العدل/ المعهد الوطني للقضاء.

الأحد، 31 مارس 2013

الوعي المطلوب.. والمرغوب


الوعي المطلوب.. والمرغوب

 

" الوعي: كلمةٌ تدلُّ على ضمِّ شيء. وفي قواميس اللغة العربية وَعَيْتُ العِلْمَ أعِيهِ وَعْياً. ووعَى الشيء والحديث يَعِيه وَعْياً وأَوْعاه: حَفِظَه وفَهِمَه وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأَفْهَمُ. وفي الحديث: نَضَّر الله امرأً سمع مَقالَتي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوعى من سامِع. والوَعِيُّ الحافِظُ الكَيِّسُ الفَقِيه.

وعليه لا وعي دون علم فكلما ازداد المرء علماً وفهماً ازداد وعياً ".[1]

 

وعيُ المرء بالعلوم - شتّى العلوم - يجب أن يكون بثلاثة ركائز، حفظ العلم.. فهم العلم.. قبول العلم، كذلك حاصل وعيه بالعلوم السياسية، عندما نقول زيد يملك وعياً بالعلوم السياسية فإذاً زيد محيط بالعلوم السياسية، والعلاقات السياسية، والمعاملات السياسية، والأنظمة السياسية، وإن حَفِظَ وفَهِمَ وقَبِلَ العلوم السياسية بجميع موضوعاتها منها على سبيل المثال لا الحصر المجتمع والنظام السياسي، فإن زيد يملك وعياً سياسياً قادراً على تعاطي السياسة من خلال وعيه بها.

المقدمة السابقة تبيّن لنا أن الوعي بركائزه – حفظ وفهم وقبول – أساس لِأَنْ نُطلق على مجموعة من البشر أنّهم يملكون وعياً، والسؤال يُطرح؛ هل إن كان هناك في المجتمع مئة زيد يملكون وعياً سياسياً حاصله أنّ المجتمع برمّته واعٍ سياسياً!؟ أم هل إن كان هناك في المجتمع مئة عمرو لا يملكون وعياً سياسياً حاصله أنّ المجتمع برمّته غير واعٍ سياسياً!؟

لا يمكن أن نسمّي – انطلاقاً بتعريف الوعي – أن المجتمع الفلاني واعٍ، أو أنّ الأمّة الفلانية واعية، أو أن الحزب الفلاني واعٍ، لأن الوعي يجب أن يكون نابع من حفظ وفهم وقبول، والمجتمع بفئاته وطوائفه لا يمكن أن يملك وعياً واحداً، والعلوم لا يمكن أن يجمعها أفراد المجتمع كلهم ليكون ذات الوعي جميعهم! فمن الصعب أن نطلق على مجتمعٍ واحد أنه يملك وعياً سياسياً، وعياً إسلامياً، وعياً تاريخياً.

كما ذكرتُ في بداية المقال من الاقتباس أنّ " لا وعي دون علم فكلما ازداد المرء علماً وفهماً ازداد وعياً "، وإن كان لا وعي دون علم، فإن لا علم بلا قبولٍ، فالإنسان في قبوله لأي علوم يجب أن يعي ما منها من مشقة وما في المشقة من فوائد ونتائج، فإذا عرف الإنسان تلك العلوم ومناشئها وما يتبعها وما يترتب عليها – معرفة واعية – أي كان وعيه لجميع متطلبات العلوم، سيملك الأسئلة والإجابات ويبحر في المناظرات والمداخلات ويشارك في المحاضرات والندوات والمؤتمرات.

ففي مقال نُشِرَ في مجلة ( Foreign Affairs ) عدد يناير – فبراير 2006 عنوانه " هل تجاوزت العولمة ذروتها ؟ "، وإن ارتبطت ( العولمة ) بشكل رئيسي في الإقتصاد ورأس المال إلا أنّها صاحبت تأثير في وعي أكثر الإقتصاديين، ففي المقال يتحدّث الكاتب عن " تباطؤ العولمة كانت جليّة للعيان منذ مدة من الزمن ... لقد كان لدى الأطراف أفكار متباينة وآلية واحدة ... " حتّى إذ قامت مجموعات – حددها الكاتب في حكومات مؤثرة – كأمريكا والإتحاد الأوروبي، يقول عن أمريكا " إذ عوّلت على قوتها المالية ومؤسساتها الخاصة في إبرام اتفاقيات ثنائية مع الدول الأخرى بصورة مباشرة ..." وعن أوروبا، أوضح " إن الرؤية الأوروبية لإدارة العولمة تقوم على عالم تحكمه قوانين جمعية ( متعددة الأطراف ) متمثّلة في سلطة ... "، هذا يوضّح لك أن الوعي يحتاج إلى عمل، وإن كانت العولمة في بدايتها قام بها أفراد لم يؤثّروا ذاك التأثير حتّى قامت دول وحكومات بدعمها عمليّاً فكان تأثيرها قوياً وواسع، هذا مثال من جانب تأثير الوعي الإقتصادي لدى المؤسسات، كذلك هناك تأثير على الوعي الديني، والوعي السياسي، والوعي التاريخي، وهناك أساتذة متخصصين في فن التأثير بوعي الإنسان، وإن كان لابدّ من اتخاذ خطوة للتأثير في وعيٍ ما أن تكون الخطوة هي القبول وبعد ذلك تمكين الأرضية المناسبة لها، ليكون تأثيرها أفضل وأنجع.

ربّما أهمية القبول في وعي الإنسان، هو أن يكون مقتنعاً تماماً بقبوله لأي علم من العلوم، وطالما أنه مقتنعاً بالعلوم – السياسية مثلاً لا حصراً – فعليه أن يقوم بنشر علمه وفهمه وبثّ أفكاره، والبثّ يختلف؛ أحياناً تُبَثُّ الأفكار عن طريق مقالٍ أو كتابٍ أو محاضرةٍ، وأحياناً تُبَثُّ عن طريق العمل بها – أي بالأفكار –، وفي نظري القاصر أن الطريقة الثانية وهي العمل بالأفكار أقوى من الأولى لما يكون للأفكار تأثيرٌ قاطعٌ خاصٌّ وواسع، سواء كان العمل فردي أو جماعي، والعملُ الفردي يقع على عاتق فرد – إنسان – واحد يبدأ ويبني ويهيئ ويجعل فكرته نموذج عملي يُقتدى به فتطول مدّة العمل بما يدعو له من أفكار، أما العملُ الجماعي فــ " يعمد إلى تفهّم الأرضيات المناسبة الموجودة في البيئة، فيطوّرها إلى جهةٍ تنتهي إلى تحقق الدعوة والفكرة "[2].

فالوعي يستمّر ويزداد كلّما زاد الإنسان علماً وكلّما زاد الإنسان قبولاً وفي مقابل القبول يجب أن يكون هناك تسليماً – بمعنى آخر – أن يسلّم الإنسان للعلوم الذي يأخذها ويتعلّمها ويحفظها ويفهمها، هذا هو القبول الصحيح، فالعلوم التي يجب أن يسّلم لها الإنسان المؤمن والمسلم هي العلوم الدينية – وهنا مجال للحصر قليلاً – لأن الإنسان بحاجة لهذا الوعي الديني، مع زيادة وسائل التواصل الإجتماعي ومع استمرار انتشار الأفكار الغربية واستخدام مصطلحات طنّانة رنّانة تستحوذ على الأذهان وتلفت الآذان، وتستبق الأنظار وتتحكم بالأخبار، لذا على الإنسان المؤمن أن يحترز ويتوخّى الحذر ويحرص حرصاً شديدا.

إذ " يجب أن يكون للمعرفة والعلمِ وطلبهما نقطة انطلاق صحيحة عالية، ومقصد فاضل، ووجهة خالصة إلهية حتّى يكونا وسيلة وذريعة إلى خير الإنسان ونفعه، ورفاه في حياته، وتحكيم صِلاتِه بالله وبالنّاس "[3] ، وانطلاقة الوعي أيضاً تحتاج لنيّة صادقة وتقرّب خالص إلى الله عز وجلّ، لنيل درجاته، والوصول إلى مرضاته، والابتعاد وتجنّب الأفكار المنحرفة في مجتمعاتنا.

 

وقال المتنبي :

ولم أر في عيوب الناس عيبا

كـنقص القادريـن عــلى التـمـام

 



[1] اقتباس من أحد المقالات.
[2] كتاب الحياة ج1 ص197، محمد رضا الحكيمي, محمد الحكيمي، علي الحكيمي
[3] كتاب الحياة ج1 ص192، محمد رضا الحكيمي, محمد الحكيمي، علي الحكيمي